عندما تدخل مستشفى من المستشفيات، وتدلف ناحية الأسِرة الملتفة حول عظام تداعت عليها جدران الزمن، وهجرها من تربوا على أكتاف من أفنوا الأعمار، وأحرقوا زهرات حياتهم لينشأ جيل طيِّب الأعراق، تشعر بالأسف وتدهمك حالة فزع، وعينك تغرق في ابيضاض مقل توارت خلف إحساس عدمي مزر.
«الشيبان» ينظرون بلهف وشغف، وكلف وتلف، إلى من يقف أمامهم، يقولون في أنفسهم لعل وعسى أن يكون واحداً من الأبناء، أو أبناء الأبناء، ولما يخيب الظن، ينكفئون منكسرين، ويختبئون تحت شراشف تخفي الوجوه، ولا تخفي الأحاسيس المدفونة في رمال الأسى، والجزع من واقع أصبحت فجوته واسعة إلى حد الانهيار، وعلاقة الأبناء بالآباء، كعلاقة الشهد بالملح الأجاج، كعلاقة الماء باليابسة، كعلاقة الأسود بالأبيض، كعلاقة النار بالثلج.
غضون تمشت على جباه كانت عالية علو الأغصان الفارعة، وتجاعيد وتجاويف ورعشة أطراف، وخوف مريع من مُقبل غامض ومبهم، في غياب من يجب عليهم القيام بواجبات البر والتقوى، تجاه من يحاولون الاتكاء على عصا الأبناء، ولا يجدون غير الفراغ الأليم، وممرضات وممرضين يسعون في الممرات المدلهمة، كسعي السلاحف المريضة.
«شيبان» مُسَجَّوْن على الأَسِرَّة كأخشاب أصابتها الرمة، يحملقون في سقوف الجدران متأملين خيراً، متطلعين إلى يد تمتد تصافح أيديهم المرتجفة، متمنين قبلة حانية تطبع على الجبين، تعيد لهم التوازن النفسي، وتسترجع ما فات ومات منذ أن سكن الوهن العظم واللحم، وبات الجسد خاوياً، ذاوياً متهاوياً، تذروه رياح الأمراض والعلل، وتمضغه العزلة، بأسنان الخوف من المجهول.
«شيبان» ذابت عظامهم تحت وطأة الحسرة، في غياب من أنيطت بهم مشروعية الرعاية والعناية والحماية والوقاية، وملء نصف الإناء الفارغ، بمعاني المحبة والعطف واللطف، «شيبان» يستلقون على أسرة المحطة الأخيرة في قطار العمر، ينتظرون زيارة مرتقبة، يرتجون لقاءً حميماً، يجمعهم مع من تربوا في أحضانهم، ومن سهروا من أجلهم، وكدوا وكدحوا، وحرثوا، لتنبت أشجار البر في ضمائر الأبناء.
ولكن، يبدو أن هناك أجيالاً تخلصت من المسؤولية، وتملصت من الالتزام الأخلاقي، وتمردت على ثوابت الدين، واختارت الجفوة بعد فجوة، وآثرت الذهاب بعيداً عن مزايا الإرث القديم. أجيالاً غرقت في أتون اللهو والعبث، وشقت طريقاً، شائكاً وعراً، معفراً بتراب الأنانية والذات المتورمة، والنفس الباحثة عن مخابئ النسيان والعصيان، والهجران والنكران والبهتان، أجيالاً تهيم في غيبوبة التفكك الاجتماعي، والاندحار الجماعي، والعبث بالثوابت والقيم.