البارحة كتبت قصيدة جميلة، تتدفق بسلاسة ويسر حتى الدهشة.. وكنت مبتهجة على غير عادتي حين أكتب وأشعر بعد الكتابة بأنني لم أقل ما وددت قوله، وأن القصيدة تفتقر إلى روح الفن والجدة.. هذا الشعور الذي يلازمني أبداً منذ أن بدأت كتابة الشعر في نضارة العمر.. دوماً هناك ما ينقص، ما لا يعجبني، ما أتمنى لو أنني ملكتُ.. لكن هذا النقصان غامض ومبهم وعصي على الإدراك والوضوح.. ونقول، لتعزية النفس ربما ان هذا النقصان هو ما يجعلنا، نواصل الكتابة.. لأن هذه المواصلة هي ذلك الطريق الصعب للوصول إلى الكمال! قصيدة ليلة البارحة كان فيها شيء من ذلك الكمال.. شيء غريب مبهم وجميل.. وحين جاءت صديقتي هتفتُ بها بانتصار الأطفال حين يحلون مسألة حسابية صعبة ويقدمونها للمعلمة، وفي عيونهم بريق المنتصر ونشوة من سيتلقى المديح.. قلت لها اقرئي هذه القصيدة. متى كتبتها؟ قلت لها البارحة.. حدقت في الورق.. قلبته فلم تجد شيئاً كانت الصفحات بيضاء.. حمدة، أين القصيدة؟! قالت بدهشة، هي أمامك على الورق أم أنك أصبحت لا ترين! وحين رأتني أحدق فيها وأقرأ الدهشة والشفقة، استدركت، وقالت مازحة ربما أنك كتبتها بحبر سري! خطفتُ الورقة من يدها وحين لم أر شيئاً سوى البياض قهقهت عالياً وقلت ربما إنني كتبتها في الحلم.. استيقظت فجأة وكان ضوء النهار ينسل من شق الستارة ويسقط على عيني. حينها أدركت أنني كنت أحلم وأن القصيدة الجميلة تلك لم تكن سوى حلم وصديقتي جاءت إلي في الحلم!! أغمضت عيني وحاولت أن أتذكر ولو جملة أو كلمة من تلك القصيدة التي حبرت ثلاث صفحات، فلم أعثر على شيء مطلقاً. هل كنت نائمة حقاً.. هل كنت في تلك البئر العميقة من النسيان أم تلك البئر العميقة من الذاكرة؟ إذن كيف كان العقل في أوج نشاطه وخياله يكتب تلك القصيدة التي لا أستطيع أن أكتبها حين اليقظة.. من أي خزائن تتدفق الكلمات والصور، الأسى والبهجة التأمل والتأويل والأفكار؟ من يقظة الحواس أم من غفوتها؟ من عمق اكتنازنا أم من سطوح معرفتنا؟ ولماذا تكتب الذاكرة الدفينة قصيدتها ويعجز العقل الواعي عن حفظها واستعادتها. هل إن كل قصيدة نكتبها هي ظل باهت لقصيدة كتبت في خفاء الذاكرة؟ ربما وربما انه الأرق الذي يجعلنا على برزخ بين ماهية روحنا وحقيقتنا وما نبدو عليه في ظواهرنا. بين ما نتوق إليه في بواطننا وما لا نستطيعه في واقع حياتنا، هذه الحياة التي تبدو لنا في الوهم أننا نسيرها بينما في الحقيقة اننا مسيرون فيها.. وهذا التسيير لا يبدو ـ في الخديعة - أننا مجبرون عليه، بل إنه خيارنا! hamdahkhamis@yahoo.com