في الضباب تتصادم السيارات، تحدث الكوارث الكبرى، وتذهب أرواح، ضحية سوء الرؤية، وسوء التصرف، في الضباب تتصادم الأفكار وتتفاقم وتتزاحم وتتراكم ويتوهم كل ذي غرض ومرض أنه على حق وأنه أمسك بزمام الحقيقة. عندما تغيب الرؤية وتغشى العيونَ غلالةٌ من غيم أو ضيم لا يرى الإنسان سوى نفسه، فيصدم الآخرين ويحاول أن يكتسح كل ما يقف في طريقه، لأنه أعمى، وعكازه مهترئة. ويقول ابن طفيل: «من لا يفكر لا يبصر ومن لا يبصر يعيش أعمى»، وما أكثر العميان، وما أكثر الذين يخربون الأوطان بعمى البصر والبصيرة، فيلوبون كجراد أحمق يحرق الضرع والزرع ويبيد المكان والإنسان، متفشياً في التضاريس كأنه الوباء، في الضباب تتوارى الأشياء الجميلة، تخبئ وجهها خلف الرداء السميك، فيستفيق القبح متحدياً، منحدراً من غياهب ومذاهب وعواقب ونواكب ومصائب وخرائب، يعيث في الأرض فساداً ولا تحصد الأوطان سوى بؤس من حصد الرحب وطالت أظافره فتطاول وتجاهل أحلام الناس غائصاً في وهمه وغمه وسقمه ورجمه وظلمه وظلامه. الضباب وسيلة الملتبسين، المتسللين، المتوسلين، الذاهبين بعيداً في الفكرة نحو نواصي العتمة، الباحثين كثيراً عن نجمة أطفأت أنوارها واندست تحت غشاء الغيم، المذهولين من نبيذ الفكرة المضللة، العاكفين دوماً على دفتر الكذب، المجندلين بأصفاد الفكرة الواحدة، المتفيئين ظلال شجرة الإقصاء، الحالمين ببلاد لا يسكنها بشر ولا شجر ولا حجر سواهم، الرافضين للمجال بكل أشكاله وألوانه. الضباب، ثوب أسود دامس عابس، بائس، يابس، يرتديه أولئك الذين يستفزهم بياض الموجة وبياض الثلج وبياض القلوب وبياض الدروب.. أولئك الذين يخطبون ود العبوس ليكون وسيلة لزخرفة الكون باليباب والسراب والاقتضاب.. أولئك هم الذين يكرهون الحياة ويمارسون ضدها الحرب، فإراقة دماء الأبرياء شهادة، وقتل النفس التي حرم الله عبادة، وكل ما يسيء إلى خليفة الله في الأرض هم يعتنقونه فكراً وعقيدة. إذاً الضباب يبقى دوماً المظلة التي من تحت سقفها يتم تعكير الفكر وتصدير العقيدة وتحوير الدين وتدوير عجلة الانتماء إلا اللاشيء، وتكسير زجاجة الأحلام الجميلة وتجذير العدمية وتصفير الحقيقة، وتسفير الحق، وتعظيم الكذبة، وتفخيم المسرحية الهزلية، وتعتيم الوجدان البشري بشعارات ضبابية وتقليم أظافر الثوابت وتجريم المنطق والسعي دوماً لنصرة الفوضى العارمة. علي أبو الريش | ae88999@gmail.com