في زمن التهتك العقائدي، والشطح، والنطح، والكبح، والقدح، والجمع والطرح، في زمن العبثية الفكرية والعدمية، واختلال توازن الإنسان، صار كل شيء معقولاً ومقبولاً، لكل من يريد أن يمارس هواية الخروج عن النص، والوقوف عند حافة الشرف الرفيع ويصيح بالناس أجمعين، قائلاً أنا ابن جلا وطلاع الثنايا، ولكل من يريد أن ينصب نفسه إلها دنيوياً، يعطي هذه الصكوك ويأخذها من الآخر .. آخر الصرعات ما جاء على لسان سلفي تونسي قائلاً .. إن للجن عقائد متعددة، فمنهم الشيوعي، ومنهم اليهودي، ومنهم المسيحي، وياريت الأخ أكمل القائمة، وقال إن أحدهم رأسمالي، ومنهم الحداثي، ومنهم ما بعد الحداثي، ومنهم من أتباع ديكارت، ومنهم أنصار نيتشة، أو هايدجر أو هو سرل.
وفي الحقيقة، فإن معطيات الواقع العربي، وما نعيشه من مشاهد، عقائدية وسياسية صادمة، تفتح المجال لخلق شخصيات بارانوية، تعاني هستيريا وشيزوفرينيا، وعصاباً قهرياً وأمراضاً نفسية هي إفراز لواقع مريض، محطَّم البنى مهشم البنيان، والثوابت فيه متحولات غريبة، مريبة، عجيبة، رهيبة، تشيب لها الولدان ويعجز المرء عن تفسيرها وتحليلها على الرغم من كثرة المحللين والمفكرين في الفضائيات العربية.
تذكرنا هذه المرحلة بالعصر العباسي الثاني، الذي فيه تحولت العقيدة إلى طرائق قدد، وتعددت المدارس والمذاهب، واشتعلت حروب الطوائف، وازدهرت خرافة الخلع والمنع وصارت الدولة الواحدة، دولاً وأشتاتاً، لكثرة المفتين، الذين صعدوا المنابر، وصار كل واحد يغرد في سربه، ولا عليه من الآخرين، ولا يهمه إن كان ما يقوله سيضر بالدين أم لا أو سيسيء إلى النظام العام أم لا.
التغريد خارج النص ليس من الحرية بشيء، والتجديف والتجريف، والتخريف في العقيدة، ما هو إلا معول هدم يراد به تحويل الحياة البشرية إلى فوضى عارمة تسودها الضواري، ومن في نفسه غرض ومرض .. ما تفوه به السلفي في تونس، ربما يكون أخطر من تصرفات الذين لا ينتمون إلى الدين، لأن من يدعي أنه سلفي محافظ على عقيدة السلف الصالح، ويخرج بهذه التخرصات إنما هو يوحي للآخر بأن هؤلاء هم المسلمون وهذا دينهم .. وسائل الإعلام ستمر على مثل هذه الانحرافات مرور الكرام، ولن تعطيها أكثر من خبر عمود في ذيل الصفحة من الصفحات المدفونة في كبد الصحيفة .. الأمر الذي سيجعل مثل هذا السلفي أو سواه، يحلقون عالياً، ويجدفون عميقاً، ما يثير اللغط، والغلط والشطط، والحطط، ويفقد الجيل الجديد بكل ما هو متاح .. الجيد قبل السيئ .. والله المستعان.


Uae88999@gmail.com