تعبر المسافة البعيدة جداً في أقصى الأرض، مداها المتجدد في قبضة الألم، ولا تصبو الى البدء، فالرحلة تتملك من أجلك بيتا بالأفق، بمعيتك كتبك الصامتة تجالسك بأناقة.. ذات الأنامل الجميلة تدعوك للقهوة لترتشفها بمعدل أربع ساعات، مرارتها لا تضير فالسكر يذوب رويدا، وإن مسحت بأصابعها الجميلة رغوة طفحت من شدة اهتزازات هوائية عابرة.. تتجدد لها الفكرة ولا تذوب، تقف على حافة فنجان القهوة، تجول أمامك شرفات نوافذ الطائرة حيث تتجلى جمالية الخالق وإبداعاته بفضاء الكون، كأن السماء تستمد نكهتها من خيال الحياة، ومن نورها المضيء، ليشعل مدن السماء ومضارب سلكت طرقها ومضت على سحبها.. هي تعلم مداك وتعرف خفاياك وأسرارك، فلا تغيب ولا تنيب عنها.. تمتزج المشاهد حين تحل، فواشنطن دي سي مدينة في جوفها يكمن الخيال، كأن الماء يفد من مسارب السماء يمطر الحياة بكثافة باردة، يموج بمذاق القهوة الأميركية والبيت الأبيض الأنيق، تمر أفواج الناس وتلف حول عمود لا يزال يتمسك بالذكرى عبر الزمن، لا يزال الزوار يشرعون إليه وكأنه مزار يومي تتجسد فيه الرؤى وقوة القرارات والمؤثرات العالمية الصادرة من بيت واحد لا يتسع لقبيلة آتية من زمن غرائبي، لها نفوذ الرجل والكيان الأوحد. تكفي أحلام المدينة لكي تجسد واقعاً ما، يكفي أن تنتصر حين تنسى الشعوب حالة الانتصار، ويكفي أنه رغم حالة الغليان فإن البيت الأبيض في هدوئه المعتاد لا يضيره ما يهيّج العالم. مدينة خيالية تطبع روح العبقرية أمام الزائر لما لها من خيوط جوهرية تجسد الحياة، فهي المنبع الثقافي المتصل بجذور العالم، كيف لا وحديقة البيت الأبيض دلالة تاريخية لمدينة القرار السياسي والتطلع الاقتصادي، رغم أن جهة القرار تعود الى الجارة مدينة نيويورك، ويبقى السر في أنها رمز سياحي يعبق بكثير من المتاحف والمكتبات، وهي مدينة لا تستطيع أن تترصد حكاياتها، ولا يمكن أن تقبض على مدارها واتجاهاتها رغم الهدوء الذي يلف كيانها، فهي مدينة ساحرة بكل المقاييس والأعراف والاعتبارات، حاملة لوحة الزمن القديم بمبانيها المميزة وذات الصبغة الأميركية المتجددة، لذا ففيها ما يدعو لكي ترتشف فنجان القهوة وتنفتح شهية الكتابة ويلوذ الفكر الى مداه.. نزهة تجرك إلى مكتبة الكونغرس التي لا يمكن تجاوز معلمها التاريخي وما تمتلكه من خصوصية رائدة تتسم بالأسطورة أو المعجزة، والتي تلهم المبدع والمثقف، إذ بدأت هذه المكتبة بثلاثة آلاف دولار حين تأسست عام 1800 لتحمل القيم الثقافية والأدبية، متجاوزة الكثير من المحن ومنها حين تعرضت للحرق عام 1814 من قبل الانجليز، ومنذ تلك اللحظة في حالة تطور فأصبحت تضم آلاف الكتب العالمية والمخطوطات النادرة وترصد مئات السير الذاتية لكتاب عالميين ومحليين، وتقدم الكثير من البحوث المهمة وتحظى باهتمام خاص من قبل سلطات الدولة العليا، ولأنها تكتب عبارتها الشهيرة بأنها الأكثر تكلفة وأماناً، تترجم هذه العبارة واقع المدينة التي تلتقي فيها الكثير من المسارات الثقافية الحرة ورموزها وحواراتها المتعددة.