مارجريت تاتشر، وميريل ستريب، لا أخفي أعجابي بهما، وإن كبرتا في السن، ثمة بريق لا يغيره العمر الهارب، وثمة احترام يلزمك أن تفرشه قدام أقدامهما، الأولى في صلابتها التي يَفرَق منها حتى الرجال، وبكفاحها السياسي والوطني حتى هزمت أعتى الرجال، والثانية بتلك الضحكة التي لا أحبها أن تشيخ، بذاك الوجه الذي يبعث شيئاً جميلاً في النفس، وبتقمصها السينمائي العالي، والذي لا يجارى.
كنت في البداية أحب كل واحدة على حدة، دونما أي رابط بينهما إلا التقدير، ولكن منذ أن اجتمعتا في فيلم “المرأة الحديدية” بتجسيد ميريل ستريب دور رئيس وزراء بريطانيا في كبرها، والذي نالت عليه جائزة الأوسكار، ربما الثالثة في التمثيل الممتع، حد أن تجبرك أن تبكيها في نهاية عمرها الذي أكل منه الخرف قرابة 13 سنة كاملة، كانت لا تتذكر شيئاً من مجدها وتاريخها، وتسأل عن زوجها الذي سبقها ليزيد من عزلتها الجحيمية، كانت تخرج، ولا تعرف أن تعود لبيتها، ولا تعرف كم سعر زجاجة الحليب رغم أن أباها بقال، حتى اضطرت الحكومة البريطانية أن تتدخل وتحافظ على هيبة تلك المرأة الحديدية التي غيرت في تاريخ بريطانيا، واقتلعت تقاليد إنجليزية صعب أن تتغير.
كان يومها “ 10 داوننج ستريت” ولمدة 11 عاماً، مبعث رضا بعض البريطانيين، ومبعث سخط عند بعضهم الآخر، لقد أغضبت هذه المرأة الصديق والعدو، تحالفت مع الأغنياء، وجحدت الفقراء، لذا كان الانقسام عليها بعد وفاتها عن عمر يناهز السادسة والثمانين، ففريق يعزي، ويضيء الشموع، تخليداً لامرأة من التاريخ بلا شك، أتفقنا معها أم اختلفنا، وفريق ما زال يصب جام غضبه على ما فعلت، ولا يخجل من إظهار فرحته بموتها، وإن كان لا شماتة في الموت، لكن تاتشر الحقيقية ماتت سياسياً حينما عزلها حزبها، وماتت عدة مرات هي من صدمات الحياة، حينها عجز الجسد أن يقاوم كما كان في شبابه صلداً، ولم يتحمل الرأس الذي كان عنيداً ومقاوماً حينما جاء الخرف، وأخرس كل شيء، وفرض تلك العزلة الظلامية، وفرض الصمت حيث لا هواتف ترن، ولا صديقات زائرات يثرثرن عن كل شيء، ولا متعة في تقليب صور الألبوم بصوره الأبيض والأسود، والصور الملونة، لأن لا صدى للمجد في النفس، إنه الخريف الرمادي، ولعل من مصادفات الأمور أن صديقها وحليفها ومجايلها الرئيس رونالد ريغان قد أصيب بالداء نفسه، فغاب عنه كل ما صنعه من حروب، وتفكك الاتحاد السوفييتي، لذا فرضت عليه الحكومة الأميركية الحظر، وعدم الظهور الإعلامي، وغاب في النسيان، لكن تاتشر التي ستحرق جثتها، ستظل تحرق أفئدة الكثير من الشعب البريطاني كلما تذكرها، وتذكر سنوات حكمها الحديدي!


amood8@yahoo.com