تقول منظمة اليونسكو إنها تخشى من اندثار 3000 لغة من أصل 6000 لغة وحسب اليونسكو فإن كل أسبوعين تنقرض لغة، الأمر الذي دفع المنظمة إلى الدعوة للاحتفاء باللغات الأم، والاهتمام بها، وقد دعت اليونسكو واستدعت واسترعت واسترجعت كل ما تستطيع فعله من أجل زوال آفة اندثار اللغات لكنها لم تعطِ سبباً لهذا الاندثار مع أن الفلاسفة يقولون إن الفلسفة بنت الدين وأم العلم، واللغة هي ذلك القاسم المشترك الذي ينقل حضارة ما من منطقة أو بلد إلى العالم الآخر، ولكن إذا ماتت الحضارات وذوت وذبلت أوراقها وانطفأ بريقها وصرخ غريقها من حريقها فإن اللغة تصبح بلا قيمة ولا جدوى ما يجعل أبناء اللغة الواحدة يهربون إلى لغات أخرى لأن فيها الحياة والحيوية وفيها ما ينفع الناس في معيشتهم وتعليمهم وصحتهم وتواصلهم مع الآخر.. لم تنتشر اللغة الإنجليزية في أنحاء الكرة الأرضية عبثاً وإنما لأن بريطانيا في زمن من الأزمنة حكمت واستحكمت وسعت وتوسعت، وحضرت بقوة في كل أرض، واستقرت في مفاصل الحياة البشرية، ووقفت عند الفواصل التاريخية، مؤسسة حالة وجدانية، اسمها الهالة المدعومة بلغة مشبعة بمصطلحات ومفاهيم علمية وأدبية وفنية.. بينما لم يكن أحد يعرف شيئاً عن الصين، بكل ما تخبئه من مخزون حضاري وثقافي عريق إلا أنه كان متقوقعاً في موقعه وزاويته الصينية.
اليوم وغداً سيختلف الأمر، والصين التي كانت بلداً فقيراً معدماً “فلاحي” مسحت عن وجهها ذلك الغبار وأصبحت صين اقتصادياً وصناعياً يزاحم الآخر والكبار بالذات، ما سيجعل لهذا البلد لغة حاضرة، مسافرة في وجدان الناس.. إذاً الأقوياء اقتصادياً وصناعياً وثقافياً هم الذين يفرضون سطوتهم اللغوية وهم الذين يبسطون مكانتهم في ربوع العالم وهم الذين يحضرون وتحضر لغتهم بقوة وحيوية تتداولها الألسن وتتعلق فيها الضمائر.
اللغة العربية، لغة تاريخ وفلسفة وحضارة شفاهية أكثر منها علمية، لو استثنينا عصور الانتشار الفكري الثقافي على أيدي فلاسفة كابن رشد وابن الفارض وابن طفيل والغزالي.. الأمر الذي جعل من هذه اللغة تضيع في خضم الحراك الإنساني المتجه نحو أسس اقتصادية وصناعية مذهلة، ولو أن الأمر استمر على ما عليه من الحياد السلبي تجاه الحياة وإفشال الفعل الحضاري فإن اللغة العربية مرشحة لأن تصطف إلى جانب لغات سادت ثم بادت ثم اختفت عن الوجود.. فالصيحات نحو إحياء اللغة وتعميمها وتقوية ساعدها وإروائها بماء المكرمات كل ذلك لن يجدي ولن يأتي بنتيجة إذا لم تثبت الأوطان خطاها على خط التماس على الآخر باقتصاد صلب وعلم نافع وثقافة لا تهاب الآخر وإنما تندمج وتندرج ضمن السياق العالمي كقوة فاعلة لا منفعلة، متواصلة متأصلة مؤثرة في الوجدان الإنساني بما تقدمه من محتوى وفحوى يخدم مصالح الناس ويقدم ما يحتاجونه من قيم تمس معيشتهم وشيم تلامس حياتهم.


marafea@emi.ae