يباغتنا المطر، ويأتي مرة خجلاً، ومرة يبات الليل بطوله يرتل ترانيمه، ويوقظ مريديه، ومرات يأتي برعوده، ولكنه “لا يكسّر حوي سَعّوده”، كما هي أغنية أطفال الزمن الجميل الغابر، بالأمس جاء على استحياء، وفي وقت باغت الجميع، كهدايا العيد التي تأتي هكذا، بدون وعد ولا مواعيد، وهكذا هي التباشير التي تطرق الأبواب بلا استئذان، كعادة ضيف نحبه، وصديق يخبئ لنا الفرحة، والضحكة التي تحتبس في الصدر، جاءنا المطر ليغسل عطش المدينة، ويغسل النفس التوّاقة للطُهر والنقاء، لما علق بها من وجع الحياة، وتداعي أمورها التي تثقل الروح، وتجعل شتى الأشياء معلقة، وأحلى التفاصيل مؤجلة، لرحلة يكون فيها الماء سيد الحضور، وصانع الوجد والحبور.
مطر.. مطر، وتدركون ما يصنع المطر، الماء الرباني، ساقي الأرض، وُمغني الحياة، وحده القادر أن يجرجر سنوات العمر، نحو البرك التي كان يشكلها في المكان العزيز، وفي الذاكرة المتوثبة دوماً، “الخريوات” التي تسير بمشاغباتها حيث تشتهي من الأمكنة، وحيث تخط حرفها المائي على صفحة اليابسة، “الشعاب “التي تسلك طريقها، تسبق “طبيل الوديان”، وهديرها المندفع من جرف الجبال وصخرها الصوّان، ماء وانهمر، كان يفرح الرمال، ينعش الحِيَا، يوقظ غنائية الرعي من خلدها السرمدي، تذهب الحياة نحو بريتها الأولى، وطفولة الأشياء، يتنفس الإنسان المكظوم، روائح الفضاء، وعطور النماء، وظليل الماء، يلاحق عصافير الروح المختبئة بين الأرض والسماء، هكذا يفعل المطر حين يفاجئ الجميع، وحين يرسل القطر.
تتذكر نافذة وظلفة خشب متشققة، ونظرة مواربة لشقاوة العمر الصغير، تعبق بمسك أهل الدار، تستذكر نوّارة دار الزين، بشيلتها “الوسمة” التي تكبرها، بخط الكُحل الذي يشق العين النعساء، والرضاب الذي يسكر الشفة الكسلى، وورد الخدين المزهّر بمسحة شمس خجلى، تعّن عليك التماعة الخضّرة في جدائل النخيل، رائحة الارتواء التي تعطّر السكيك، لون الثرى النائم، وتقطع صوت “المزاريب”، تنطط الحافية في غمرة نضجها، اخضلال شعرها، تضاريس الثوب المخوّر المبتل حين يناغي جسدها، سكون الأشياء حفاوة بالمطر، وأحلام البشر.
تتذكر الرجال وهم يصلحون أسطح منازل الطين، وهم يفزعون للجار، وللعجوز، وهم يحدّون لشعاب الوديان، بـ”المعاريض والدعون”، وأخاديد الحفر، يسلكون بها طرقاً بعيدة عن الدور، وبساتين النخيل، وحظائر البَهم، يجعلونها ترعى أماكن وسيوحاً، كانت في عز شوق لقطرة مطر، تتذكر شجرة الأشخر النابتة في ركنها القصيّ، وهي تحضن ما يسوقه الماء في اندفاعه، من خشاش الأرض، وأوراق الشجر، تسعد والأطفال بثمرها الصغير السام، وفرح تفقيعه، وما تضمه تحتها من هدايا، جرفها السيل، وأحضرها المطر.



amood8@yahoo.com