يعاني قراء الشعر العربي حتى اليوم مشكلة عدم التحديد في أطوال القصائد، فالقارئ لا يعرف عند الشروع في مطالعة نص ما متى ينتهي وكيف؟ إذ لا يوجد إطار حاكم يحدد حركات القصيدة ونظام تقاطعها باستثناء الموشحات، فهي النصوص الوحيدة التي تحددت أبنيتها وتعددت وتنوعت، فبوسع القارئ أن يتوقع منذ المطلع والمقطع الأول كيفية انتظامها وشكل نسقها، وإطارها الإيقاعي. ولكل شاعر أن يضبط موازنيه ويقيس أطواله ويختار ما يروق له، لكنه إن فعل ذلك كان عليه أن يلتزم به ولا يحيد عنه. فهو يراوح بين حرية الاختيار الأولية وضرورة الانتظام المتلازم التالية. وقد آثر ابن زهر الحفيد مثلاً أن ينوع في أشكاله، لكنه عادة لا يتجاوز خمسة مقاطع في الموشحة الواحدة، وكلها تمضي على نسق التفاعيل العروضية، لكنها تتسم بمرونة عالية في توزيعها على السطور، فهو يستخدم التشطير والتربيع والتخميس والتذييل وغيرها للتنويع الإيقاعي والتوزيع الدلالي، وقد يأتي بمطلع مستقل كما فعل في الموشحة التي نتعرض لها في قوله: “سلم الأمر للقضا/ فهو للنفس أنفعُ” وقد يدخل مباشرة إلى المقطع الأول دون مطلع، فيسمى الموشح حينئذ أقرع أي ليس لرأسه شعر، ثم نتابعه وهو يقول في المقطع الرابع:- “من لصبِّ غداً مشوق ظل في دمعه غريق حين أموا حمى العقيق واستقلّوا بذي الغضا/ أسفي يوم ودعوا” وكما نرى، فإن المقطع يتشكل من خمسة أشطر لا يخطئ نظامها الصارم، فالثلاثة الأولى منها تجدد في القوافي، فتلتزم هنا بأعتى القوافي وهي حرف القاف الذي سميت القافية باسمه. أما الشطر الرابع فيعود لقافية المطلع وهي الألف المقصورة، ويربط الخامس أوصال المقاطع كلها بالعودة إلى العين المضمومة، إنه تطريز عجيب وهندسة بديعة، وعلى الشاعر أن يقدم صورة ومعاينة وهو يرقص في هذه القيود، بل عليه أكثر من ذلك، وهو أن ينثر في نصه تعاويذه، وليست أسماء الأماكن العتيقة مثل “حمى العقيق” و”ذي الغضا” سوى إشارات تربط النص بتراثه القديم، وتشد الشاعر إلى أسلافه الأولين، ويقوم الشطر الأخير بدور القرار الذي يطيب بالتكرار. أما المقطع الأخير من الموشحة فهو مصدر الدهشة الحقيقية، لأنه يعمد إلى توظيف الأساطير العربية، وهو أمر نادر في الشعر القديم حيث يقول:- “ما تُرى حين أظعنا وسرى الركب موهنا واكتسى الليل بالسنا نورهم ذا الذي أضا/ أم مع الركب يوشعُ” ويوشع بن نون هو فتى موسى، وقد روى أنه قاتل الجبارين يوم الجمعة، فلما أوشكت الشمس على الغروب، خاف أن تغيب قبل فراغه منهم ويدخل السبت فلا يحل له قتالهم فيه، فدعا الله تعالى، فمد له الشمس حتى فرغ من قتالهم، ثم صار يضرب به المثل في القدرة على إضاءة الليل، وأطلق شوقي على الشمس “أخت يوشع” والطريف أن يوظف الشاعر الأندلسي الفيلسوف هذه القصة، ليضفي على ركب محبوبته هذه الهالة النورانية، فيشف شعره عن عمق ارتباطه بتراثه الميثولوجي العريق.