حين نجلس معاً، إخوتي وأنا والأصدقاء، نحن الذين مازلنا نتحدث عن بعضنا بصيغة الجمع المتكلم، “نحن” هذا الضمير حين ندسه بين الكلمات يكون القصد منه حديثاً عن جيل ولد على أعتاب مرحلة وانسحاب أخرى كانت تلملم متاريسها وتمضي إلى غير رجعة أخرى، جيل لم تكن الأشياء كلها متاحة له ولا حتى ربع ما هو متوافر اليوم. ومع ذلك، فقد عشنا تلك الأيام كما هي، قطعنا تلك الطرقات المتربة والمليئة بالغبار دون تذمر ولا طلبات، شخبطنا بالفحم على الجدران فقد كانت تسليتنا وحائط ديمقراطيتنا الأول قبل أن تقودنا غواية القراءة إلى عوالم القلق والأرق وطرح الأسئلة التي لا تنتهي، لكم تشاتم الصغار على تلك الجدر، ورسموا أشكالاً غريبة، وأحياناً راجعوا حروف الأبجدية التي كانت المعلمة تلقننا إياها في المدرسة، لم تكن الأوراق متاحة بهذه المجانية الحالية ولا الدفاتر، كان ما يوزع منها كمية محددة هي نصيب كل طالب أو طالبة بعدد المواد الدراسية ولا أكثر، اليوم كلما مشيت في المكتبات ومحلات بيع القرطاسية يصيبني دوار له علاقة بتلك الأيام! مع ذلك فقد قطعنا الرحلة إلى المستقبل بأقل قدر من الإشكاليات والشعور بالحرمان، امتلأت ذاكرتنا وذكرياتنا بالكثير من التفاصيل، “نحن” حين أكتبها يتقافز أمام عيني وعلى بياض الورق الكثير من الأسماء، شباب كالورد وصبايا كرائحة الياسمين، تقاسموا معاً ملابس الأيام، وثرثرات الطرقات الطويلة، تدثروا معاً بتلك الرغبات الجامحة، رغبات السفر، والتمرد، والتعليم، والكتب، والقراءة، وعشق نجمات السينما ونجومها، ورعونات المراهقة وطيش الشباب، وحين جاءت الثمانينيات كان وعيهم كافياً ليواجهوا تحدياتها وليصنعوا تجربتهم، نجاحاتهم وفشلهم، كان ذلك سيبدو أمرا طبيعيا، من هؤلاء بزغ نجوم وشخصيات ومشاهير، في صحراء قاسية لا تتوقف عن مفاجأتنا أبداً بهباتها الجميلة. حين سافرنا للولايات المتحدة بدت لنا المولات أو المراكز التجارية العملاقة عالما غريباً، جديداً، وكنا نضيع في طرقاته في أغلب الأحيان، أو يضيع أحدنا في أي موقف ركن فيه سيارته، كنا مبهورين بأميركا وبالحلم الأميركي، وبالحياة الأميركية، وبتساقط تلك الأوهام التي غرست فينا عن تصورات كبرى لم تكن حقيقية بقدر ما كانت رؤى أشخاص فرضوها على جغرافيا عربية بأكملها، مع ذلك فنحن في دبي حين ذهبنا إلى أميركا كان أول مركز تجاري قد افتتح بداية سنوات الثمانينيات، وكان أمامنا عالم جديد يفتح لنا ذراعيه لنعيش تجربته بطريقتنا، نحن لم نرفض والتجربة كانت براقة وشديدة الوهج، غواية أخرى سنسميها لاحقا عولمة السوق. “نحن” نتذكر جيداً حين يجمعنا مطعم في مول، أو مقهى في أي مركز تلك البدايات الخجولة لظهور الكوفي شوب، لم يكن حتى مع وجود ذاك المركز وجود لظاهرة جلوس النساء في الكوفي، حتى جاءت فتاة مواطنة من دبي وافتتحت واحداً خصصته للنساء فقط، وأسمته “آرام” الذي اختفى لاحقا فازدهرت مع الأيام ظاهرة تردد البنات على الكوفي بالتوازي مع جلوس الشباب في أحد أشهر الكافيهات في دبي يومها وتدريجياً اعتاد الناس واعتاد المجتمع الظاهرة وكل ما أفرزته! ذاكرتنا أو ذاكرة “نحن” هي في نهاية الأمر ذاكرة بلد ومجتمع وهي جديرة بالتسجيل والقص. عائشة سلطان | ayya-222@hotmail.com