يقطف الشاعر الوردة البيضاء ويركض عابرا بها وسط دخان الحروب، يصرخ في الدروب بأغنية الحياة لعل الجثث المحروقة تنهض من موتها العبثي، لعل القلوب التي تحجرت في حقدها الأسود، تلتفت قليلا إلى ضوء الأمل حتى لو كان بعيدا. وفي كل زاوية يعيد الشاعر بذر الكلمات الطيبة ونثرها على أسفلت الطريق، لكن الجنود بأحذيتهم الثقيلة يمرون ضاحكين على الشاعر وهو يرفع راية الوردة عاليا، مقدسا عبقها الأخاذ على الرغم من انتشار روائح الكراهية، ومبجلا نقاء لونها موقنا أن الصفاء ينتصر في النهاية مهما استمر العناد. والحرب بالنسبة للشاعر هزيمة للعقل، واختلال في ميزان الدنيا عندما توضع الوردة في كفة والرصاصة في كفة أخرى. يقطف الشاعر الوردة الحمراء ويركض نحو باب عشيقته الوهمية في كتاب الحب، لكنه في الطريق يتعثر بحجر الشك، وتلدغه عند المنعطفات حبال المتربصين ضد الانعتاق، هؤلاء الذين تراهم يحرسون الأفكار كأنها كنوز أجدادهم، يسجنون الخاطرة الحرة، ويقيدون بسلاسل الحديد كل رغبة حقيقة نابعة من القلب. ومن غير أن يدرك يسقط الشاعر في شباك الشروط، وبدلا من الوردة يطلبون منه المال والذهب المستحيل فلا يملك في النهاية سوى العيش في جنة القصيدة حيث الحب كلمة حمراء تخفق في قلبين متعانقين بينهما المسافة عدم. يدخل الشاعر حديقة الورد مفتشا عن زهرة الخلاص، عن النبتة التي إذ تفوح تبوح بسر الوجود كله، أنها وردة المعرفة المحاطة بأشواك الشك، كيف يحملها الشاعر من غير أن تدميه، وكيف يتأملها من غير أن تعميه، فيها ينام سؤال الوجود ومنها تتفجر ينابيع الكشف عن كل مكنون وغامض. ولكن وردة المعرفة لا تكشف عن نفسها لاحد أبدا، قد يشم الناس عطرها الكوني، وقد يستشعر الحكيم تفتحها في كهف عزلته البعيدة، إلا أن الشاعر هو من يصفها في النهاية، وهو من يخط ظل برعمها الطويل على الأرض، بتاجها المرصع ببتلات على شكل قلب، وشوكتها النافرة على شكل درب. يخط الشاعر قصيدته الأولى وهو أعمى، يبدأ بالوردة باعتبارها رمزا للجمال والحب، يراها بعين الخيال تكبر مثل شجرة تغطي الكون ويسبح في ظلها الناس أسيادا على قلوبهم، لكن الرموز تتغير عندما ينقلب الناس على بعضهم. وبدلا من الوردة يحمل كل منهم الشوكة ويبدأ بطعن الآخرين، في الظهر عند الغدر، وفي العين في عز الظلم، وفي القلب في لحظة خصام أحمق. والشاعر يحتار في وصف تبدل الأحوال وقد يذبل القلم في يده من غير أن يتمكن من زرع حرف في ورقة الحياة. الوردة سجينة في مزهريات الصبر والكلمة ممحوة في قصيدة الصمت وفي الوجدان نبع أمل وأغنية تشبه طعم الولادة في صباح جديد akhozam@yahoo.com