لا أرثي الأصدقاء. لا تليق بهم كلمات النعي. حينما تهطل عبارات التفجّع حول جثامينهم يضحون موتى. يتكفنون بدموعنا ويذهبون وحيدين إلى أضرحتهم. يضيئون قبورهم ويعتمون أمكنتهم المعتادة. تعودنا على حضورهم، ولكن هيهات أن نتعود على غيابهم في منتصف الطريق. لا أرثي الأصدقاء. أرثي نفسي في رحيلهم. لا أكتب عن أحمد راشد ثاني لكي أرثيه، ولكن لكي أتصفح صورته في عيوننا. لكي أعرف ما الذي فعله هذا الرجل القيمة والقامة، في حياتنا الثقافية وذائقتنا الشعرية. حينما جاء نعي أحمد راشد ثاني صدّقت. كنت أول المصدّقين، لأنه كان يعد العدة لهذا الرحيل. يعبّد الطريق له بقلبه العليل وكتاباته. خرج من المستشفى لكي يكتب تجربته مع الموت وليس مع الحياة. نثر في صفحته “قفص الأمواج” تلك اللحظات التي كان يعاند فيها الموت، وتعانده خلالها الحياة. جعل من مشاكساته الودودة للممرضات والأطباء، جلبابا للأسئلة الصعبة. أسئلة الوجود وأسئلة الفناء. في ليل المريض أو الليل المريض، تحضر الآلام والأوجاع. في ليل أحمد راشد ثاني، حضر الليل بجلائه وتجلياته. ليل الحديقة وأشجارها الحانيات، وورودها المزغردة. الليل الذي خبره حتى الرمق الأخير. قرأنا في نصوص صاحب “يأتي الليل ويأخذني” أحمد راشد ثاني نفسه: المعنى، الذاكرة، السيرة، الرؤية. أحببنا فيه ومعه كل تلك الأماكن التي عجنته وأنضجته. أحببنا معه تلك الأمكنة العابقة بدوائر الدخّان، وبأحلام المنكسرين والحالمين والمتوهمين. أحببنا معه خورفكان وبحرها، وموجها الذي يقف عند أبواب البيوت العتيقة، يبسمل ويقرأ سورة الكرسي. أحببنا أمه التي تركها في خورفكان تساير البحر، وتحبك حكاياتها من هدوئه وصخبه، وتكتب لولدها قصيدته يوم رحيلها. أحببنا معه شخوصه الخارجة من الهوامش والحواشي، إلى المتون. كان أحمد راشد ثاني ابن بحر. خبره كما يفعل بحار قديم. شكّلت مواويله تضاريسه الروحية العميقة. حرثت أغانيه تغضنات وجهه النحيل. واصطخبت أمواجه في قصائده.. فجعلت منه بحرا مداده “ما ينفع الناس”. وحينما اختار أن يكتب في “الاتحاد الثقافي” تحت عنوان “قفص الأمواج” فإنه لم يكن يبغي اعتقال البحر في قفص، بقدر ما كان يريد أن يحرر نفسه من ذلك الصخب المهلك. لكن لا موجه استكان، ولا روحه هدأت. ظل أحمد راشد ثاني ذلك البحار القديم، المتبرم بالراسيات، المشدوه بالغاديات. ? ? ? صباح السبت الماضي جاء نصوح متقدما على موعده أربعا وعشرين ساعة. قال إن الأستاذ جلس يكتب باكرا. كان خطه كعهدي به منمنما. كانت صفحاته الأولى مثل كل مقالاته السابقة يسيرة وانسيابية. يسيل كلامه بلا عوائق، ما خلا كلمات قليلة يشطبها ويعيد كتابتها من جديد. في آخر الصفحة الثالثة خذله القلم. جفّ حبره، فاستبدله بآخر. عصته الانسيابية، فراح يشطب فقرات بكاملها ويعيد كتابتها من جديد. بدا الأستاذ رائقا هذا الصباح، قال نصوح. ? ? ? هو أحمد راشد ثاني، الرائق، الهادئ، النحيل، الجلي، الودود، الشارد، الحاضر، المتفكر، الخفيض الصوت دائما وأبدا. هكذا يراه الأصدقاء والمحبون. هو أحمد راشد ثاني، المضطرم، المضطرب، الصاخب، الشاهق، القلق، المشتعل، المترمد، المتمرد، المتجدد، الباحث الدائم عن موجة يسرقها، أو تأخذه إلى حيث تسلمه إلى موجة أخرى، أو تتكسر به ومعه عند أعتاب ميناء، من تلك الموانئ التي لا يعرفها إلا البحارة المحترفون والشعراء المبحرون في عواصف الكلام.. هو أحمد راشد ثاني، الذي نقرأه في استكانته وصخبه، وسنظل نبحث عن أنفسنا في بحره المتلاطم.. أحمد راشد ثاني، سلاما... adelk58@hotmail.com