ماذا يفعل الشاعر إن جاء يكتب وكانت بداية القصيدة قطرة دم. بعدها تتقطع السلاسل التي قيدت أفواه المحرومين ويرتفع نشيدهم حرا في سماء لا حدود لها، يبدأ المطلع الأول بالجنود الغلاظ يدوسون على الورد متجهين لسد بوابة النور خوفا من بزوغ الشمس، ثم الأسلاك الشائكة تنثر في العراء لمنع رياح التغيير من الهبوب، ثم المطارق العملاقة ترتفع عاليا لمنع كلمة (لن) المخيفة. والشاعر الحائر في معانيه؛ لأنها أقل من معاني الحياة يلجأ إلى تغيير الحروف عن مواضعها، وكلمة (العشب) الذي كان يداس طويلا، تصير (الشعب) الذي يرفع رأسه متحديا خوفه الداخلي، منتصرا على فكرة الانحناء. وكلمة (الثروة) المنهوبة تتغير إلى (الثورة) المكتوبة بالدم. ثم تتوالى المعاني في تبدلاتها عندما يصبح قميص الشهيد أقوى من الدبابة والحديد، ويصير التسبيح باسم الله رعبا أمام غلاة التشبيح، ويكون الموت طريقا إلى حياة الكرامة والعز، ويكون الغد ملكا لمن ينقش على الأرض اسم وطنه محاطا بهالة نور لأرواح حرة. ماذا يفعل الشاعر إن جاء يكتب وكانت بداية القصيدة قطرة دمع. بعدها تنسج الآهات في غناء يصير زغرودة فرح ساعة النصر، تفتح الأمهات عيونهن التي ابيضت من شدة الحزن فيكون شكل الحياة عرسا للراحلين والشهداء، يقترب الآباء من الأطفال فيجدون في عيونهم نور الأمل يبصرون به منظر الدنيا بألوانها كاملة بعد أن أصبح الربيع ربيعا حقيقيا وميلادا جديدا لزهرة الصبر، وبعد أن تغير طعم العذاب إلى عذوبة. والشاعر يحاول أن يخلص للقصيدة فيذهب إلى بتر الكلمات المرّة، مقتلعا الراء من كلمة (الحرب) ومن كلمة (الغدر)، ماسحا (الظلام) من قواميس الأمل، راسما في البياض بياضا ناطقا لأن حروفه كلها من نور. ماذا يفعل الشاعر إن جاء يكتب وكانت بداية القصيدة حبة رمل. يرتفع صوت الأرض وهي تئن من اختلاط الدمع بالدم، تنحني الأشجار الحزينة وهي تحتضن أعشاش العصافير كلما مرت طائرات الموت. والرمل هو حضن البشر الأخير لكن هناك فرق بين من يدخله مختارا الانتماء إليه وإلى الأرض التي جاء منها، وبين من يقذفون فيه كما يقذف الركام في مزابل التاريخ. والشاعر يولد في الأصل عاشقا للأرض والجمال، والقصيدة التي يكتبها تتغير إلى مقطوعة حب ووجد ومجد للأوطان التي تعرف كيف تغير رملها إذا فسد، وكيف تكشف عن وجهها للقمر فيظنها ابنة العشرين وهي في الحقيقة أم لآلاف الأقمار الصغيرة. لا تكتمل المقاطع كلها في قصيدة الوطن الجديد إلا حين يصبح للأحمر مكانا في الرايات، ويكون للأخضر امتداد في مساحة القلب، ويصير للأبيض ظل مثله يطفو على الكلمات، وتتوزع بين السطور نجوم الأمل وهي مشعّة أكثر من الضوء، وتصير الأقلام أفواها، والريشة جناحا، والابتسامة موعدا، والرغيف مرآة. قيل للحياة ابتسمي فخاف الظلام قيل للكلمة تراقصي فاستسلم حاضن الشك قيل للصنم أن انحني، لكنه تعثر وانكسر. عادل خزام | akhozam@yahoo.com