الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المال والدم

المال والدم
6 يناير 2012
(القاهرة) - الجُثَّة ملقاة في منطقة صحراوية بعيدة عن العمران بمسافة تزيد على العشرين كيلو متراً، ملفوفة بقطع من الخيش، صاحبها تجرد من بعض ملابسه، إلاَّ أن الفحص بالعين المجردة يُؤكد، أنه تعرَّض لعمليات تعذيب ربما لعدة أيام، فهناك إصابات في كل أنحاء الجسد، آثار ركلات وكدمات وتجمعات دموية وزرقة واضحة، كما يبدو أنه تعرَّض كذلك للخنق، فآثار ذلك لا تخفى على الناظر إليه، أما المشكلة فإنه لا توجد بصحبته أي أوراق ثبوتية أو بطاقة تحقيق الشخصية، وبخبرة رجال البحث الجنائي جزموا أولاً أن الجريمة وقعت بدافع الانتقام، والأمر الطبيعي أن يعرفوا أولاً من يكون. الإجابة عن السؤال لم تستغرق وقتاً طويلاً لأن شقيق القتيل تقدَّم ببلاغ عن اختفائه بسيارته، فهو طبيب أسنان ولم يتوَّجه إلى عيادته على غير العادة إذ أنه لا يتخلَّف يوماً عنها إلا لسبب قهري، ما يعني أنه تعرَّض لظرف غير عادي، ثم أنه لم يعد إلى بيته بعد ذلك، وتم الربط بين هذا البلاغ والعثور على الجثة وتعرف عليها شقيقه، إلا أن ملابسات الجريمة في منتهى الغموض، فالرجل بحكم عمله يلتقي يومياً بعشرات الأشخاص من المرضى، وإن كانت علاقاته مجهولة منذ طلق زوجته بعد خلافات استمرت سنوات، لكن كل ما بينهما انتهى وانقطعت صلتهما تماماً، وان كان من الطبيعي أن تشير إليها أصابع الاتهام أولاً لمجرد أنه قد يتبادر إلى الذهن أنها الوحيدة في الوقت الراهن التي يمكن أن يُقال أن بينها وبينه خصومة وان كانت لا تؤدي إلى تلك النتيجة الدموية، غير أن المعلومات الأولية أكدت أن المرأة مسالمة ولم تحاول أن تنال منه بأي شكل، وأنها غير موجودة في البلاد أصلاً في وقت وقوع الجريمة، وكان لابد من البحث عن المجرم. الغريب أنه تبيّن أن الطبيب القتيل يمارس أعمالاً تجارية، وله علاقات مالية مع عدد كبير من الناس، من مختلف الأماكن والأنشطة، لا صلة لها بالطب، وذاكرة هاتفه المحمول مكتظة بالأرقام التي يحتفظ بها والتي يطلبها وتطلبه، فهو ينتمي إلى أسرة متوسطة الحال والتحق بالعمل الحر منذ نعومة أظفاره ليتمكن من الإنفاق على دراسته، ولم يتوقف عن هذه الأعمال صيفاً أو شتاء، ومع تفوقه في دراسته منذ حصوله على الثانوية العامة والتحاقه بكلية الطب، فقد كان يحصل على مكافأة تفوقّ شهرية ثابتة، كانت كافية ليتوقف عن العمل خاصة أنه يقيم في المدينة الجامعية التي توفر له كل الوجبات بجانب المسكن المجاني، إلا أنه لم يستطع أن يترك ذلك لما يحصل عليه من مكاسب جيدة، وواصل نشاطه التجاري المحدود. وحتى بعد أن انتهى من دراسته وأصبح طبيباً غلب عليه الطبع والمال، ولم لا وهو الذي يمتلك عيادة وشقة سكنية الآن وهو في مقتبل العمر، كما لو كان مولوداً وفي فمه ملعقة من ذهب حتى إن الذين لا يعرفونه كانوا يحسدونه على ما هو فيه ويظنونه كذلك، فقد استطاع أن يحقق ذلك كله من خلال عمله وتجارته، ويستغرب كل من يعرف حقيقته أن يكون هذا الطبيب تاجراً في مواد غذائية، أو ملابس، أو قطع غيار، وفي كل شيء يمكن أن يباع أو يشترى، ومما جعله رابحاً دائماً أنه لا يعقد صفقة شراء إلا بعد أن يتأكد من بيعها بسعر أعلى ولتاجر حاضر، فكان إلى السمسرة أقرب منه إلى التجارة، وكثيراً ما كان وسيطاً ويكتفي بالعمولة التي كانت تفوق ما يحصل عليه من ورائها لو تمت لحسابه. لهذا كله كان لا بد من الربط بين الجريمة وهذه المعلومات، فهي تشير إلى أن القاتل تربطه به علاقة مالية، وأن هُناك خلافاً ما بينهما، حتى وإن كانت ملابسات الجريمة تقول إنها وقعت للانتقام، والمفاجأة أن القتيل أجرى واستقبل مئات الاتصالات خلال اليومين الأخيرين، معظمها من أشخاص غير معروفين لأسرته، إلا شقيقة مطلقته التي كانت أكثر من اتصل به عدة مرات خاصة في يوم الجريمة، وبجمع المعلومات عنها تبين أنها مختفية وتركت منزلها وهاتفها المحمول مغلقا، وهذا وحده كان كافياً لأن تشير أصابع الاتهام إليها، وتم استخدام التقنيات الحديثة لمعرفة المكان الذي تختبئ فيه، وتوجهت قوة من رجال الشرطة إليها للاستفسار عن أي معلومات لديها قد تدل عن القاتل أو تساعد في البحث عنه، إلا أن المفاجأة كانت أكبر مما يتوقعه أحد، فبمجرد أن شاهدت الضباط والجنود بملابسهم الرسمية، وقبل أن يوجهوا إليها أي سؤال، انهارت وانتابتها نوبة صراخ وبكاء هستيري، وهي تريد نفي التهمة عن نفسها، ثم تنفي تعمد قتله، وبعدها تتبرأ من المجرمين، ثم تعود لتقول إنه يستحق ما جرى له، وحاولوا تهدئتها ليفهموا الوقائع الصحيحة كاملة. اقتادوها إلى غرفة التحقيق، وقد دسّت رأسها بين يديها، وأخفت كل معالمها وهي تحاول أن تتكور حول نفسها، تبكي باستمرار تخنقها الدموع، قالت: إن ما حدث لي هو أقرب إلى عمل درامي أو فيلم من خيال كاتب، قد لا يصدق رغم أن أحداثه عادية، إلا أنها بالنسبة لي كانت غريبة جداً، بدأت منذ خمس سنوات عندما عانت أختي الصغرى من ألم في أسنانها، كان لا بد أن تذهب إلى الطبيب، ورغم أنها خريجة الجامعة، فإنها لا تفضل أن تذهب وحدها أو هكذا اعتدنا أنا وهي نكون معاً في كل شيء، فأنا مثلها ولا أختلف عنها، ومع حبنا الشديد المتبادل فإن الأمر بيننا لا يخلو أحياناً من شجار بسيط مثل مناوشات القطط، فلا يترك خصاماً ولا يولد كراهية. كُنّا نستقل سيارة تاكسي في طريقنا إلى مركز طبي معروف ومتخصص في علاج الأسنان، ولكن ونحن في طريقنا شاهدنا لافتة هذا الطبيب، واختصاراً للوقت ونظراً لقربه نسبياً من مسكننا توقفنا أمامه، ودخلنا لنجد إقبالاً متوسطاً، والمنتظرين ليسوا كثيرين، إلا أنهم عندما لاحظوا أن أختي تتألم، سمحوا لنا من تلقاء أنفسهم بأن ندخل للطبيب قبلهم، وقبلنا هذا شاكرين لهم، وجدنا أنفسنا أمام طبيب شاب قابلنا بالترحاب، وبأسلوبه استطاع أن يخفف من آلام أختي قبل أن يجري الكشف عليها، وبعدما فحص أسنانها أخبرنا أن الأمر بسيط وسيعالج بالأدوية غير أنه لا بد من الالتزام بالعلاج، على أن نعود إليه بعد أسبوع، وفي الإعادة كانت له ملاحظات على أسنان أختي بأنها في حاجة إلى رعاية قد تكون مستمرة لأنها ضعيفة وعلينا أن نتردد عليه مرة كل شهر للمتابعة. بعد كل مرة نزور فيها الطبيب لا حديث لنا أنا وأختي إلا عن مهارته في عمله وطريقته في العلاج، فهو من الذين يتعاملون مع مرضاهم بالإيحاء النفسي أولاً، ويُهوِّن من الحالة المرضية، ويؤكد أنها عارضة وفي منتهى البساطة، مما يساعد كثيراً في العلاج، علاوة على أنه يجيد الحديث بكلمات منتقاة جاذبة، خاصة لمن هن في أعمارنا، واستطعنا أن نعرف عنه الكثير، وكذلك يعرف عنا بعض المعلومات من خلال الدردشة العادية، لكن المفاجأة التي لم نتوقعها، أنه طلب يد أُختي، وتقدم لها رسمياً ووافقت الأسرة فمثله لا يرفض. تزوجا، لكن ما حدث لم يكن في الحسبان، فقد بدأت الخلافات بينهما مبكراً لتباين الطباع، والاهتمامات، فأُختي رومانسية حالمة، هادئة رقيقة، بينما هو بخيل شحيح، وما كنا نسمعه منه أثناء التردد على عيادته اختفى بينهما في البيت، فوجدت نفسها أمام رجل آخر غير الذي تعرفه، مهتم بالحسابات والمعاملات التجارية، يتحوَّل إلى شخصية مختلفة تماماً، لا تستطيع التعامل معها، هنا يتحدث بلغة الأسواق وربما السوقة، وفي المقابل كان تعامله معي من قبيل الربح المادي وهو يغريني بالمكسب والمال من خلال ترويج بضائع وملابس بين زميلاتي في العمل وجاراتي، ووجدت المهمة سهلة ومربحة. عام واحد كان كفيلاً بأن يحسم العلاقة بينهما، فقد فشلا في ردم الهوة والتفاهم، ولم يكن هناك سبيل للتقريب، وباءت الجهود بالفشل، وبعد أن ظلت الأمور معلقة لأكثر من عام كانت تعاملاتي معه مستمرة، ثم تم الطلاق، ومن الطبيعي أن أنهي معه كل ما بيننا، فلا يعقل أن أتعامل مع من تسبب لأُختي في ألم وجرح نفسي، وان كنت قد تألمت أكثر منها لما حدث لها، فقد أصبحت مطلقة وهي في الرابعة والعشرين من عمرها، ولا ندري إن كان لها نصيب مرة أُخرى في الزواج، أجدني أمتلئ حقداً نحوه، على عكس أُختي التي سلمت أمرها لله ولجأت إليه وتقضي معظم وقتها في العبادة وحضور دروس العلم، ونصحها أبي بأن تتوجه لأداء العمرة، حتى تنسى تماماً هذه التجربة المرة. كانت لي بعض الأموال عند طليق أختي المريض بحب المال، اتصلت به ليرد إليَّ حقوقي حتى نقطع كل ما بيننا، حاول أن يتهرَّب مني ويساوم، إلا أنني تعاملت معه بحدة ووافق على أن يرد لي جزءاً، ولكنه لم يف بوعده، وماطل وراوغ، ما جعلني أتحوَّل من قطة وديعة إلى نمرة شرسة، فامتلأت حقداً وغيظاً، ولأنني ضعيفة اضطررت إلى الأساليب الملتوية، واستأجرت ثلاثة من البلطجية قاموا بخطفه قبل أن يتوجه إلى عيادته وطلبوا منه الأموال، لكنه قاوم ورفض، فقاموا بضربه وتعذيبه، لإجباره على ردها، لكنه لم يستجب فظلوا يضربونه حتى لفظ أنفاسه، وألقوا بجثته في تلك المنطقة المهجورة، لم أكن أريد قتله.. لكنه يستحق!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©