هذه رسالة لن يتسلمها صاحبها ولن يقرأها يوما ما، وكثيرة هي الرسائل التي لم يمهل الوقت أصحابها ليتسلموها، كثير من الناس كتبت عناوينهم خطأ فضلت الرسائل طريقها إليهم، كثير من العشاق اعترضت رسائلهم أيد خفية فذبل ورد العشق في الرسائل وخفتت الشهقة في القلوب، وقوافل من الشهداء يمضون كل يوم إلى السماء مكللين بالمجد ومخفورين ببسملة الملائكة، وزغاريد الأمهات، هؤلاء الشهداء لطالما تمنيت أن أقابل شهيدا قبل أن يرحل، لطالما تمنيت أن أكتب إليه في عليائه رسالة. إلى شهيد جميل كوجه نبي .. فيم كان رحيلك باكرا؟ كيف انسللت بخفة عصفور ملون من بين ذراعي أمك لتلحق بالراحلين إلى السماء، هل عرفت أن قذيفة غدر مصوبة إلى صدرك في تلك اللحظة، هل أحسست ببرد اليقين يهب من مكان قصي، هل أغمضت عينيك للحظة لأنك لمحت جناحي ملاك مهيب يناديك لمرافقته؟ يقال بأن الأموات تتكشف أمام أعينهم الحجب فيصير بصرهم كالحديد، يرون عالما لا نراه نحن المتحلقون حولهم. إلى شهيد بهي كطعم الجنة .. وأنت تصُف كراريسك وكتب جامعتك وقمصانك البسيطة قبل انهيار السقف على رأسك، هل أبلغت والدتك بأنك ستترك لها رائحتك وأحلامك وإخوتك وتمضي؟ هل أعلمت رفاقك أنك لن تكون معهم هذا الصباح وبأنهم سيبكونك بدل أن يحدثوك عبر الهاتف؟ هل شعرت وأنت تقف في المسافة اللامرئية بين الأرض والسماء على تخوم النور واستغفار الملائكة بأنك راحل؟ هل فرحت؟ هل تلبست اليقين من إخمص قدميك، فما عدت تبالي بشيء حتى بالموت؟ كيف لنا أن نحظى بإجابات؟! إلى شهيد نقي كلون النور .. هل تسمع هذا الضجيج خلفك؟ هل يزعجك هذا الجدل التافه الذي يسقط فيه أهل الدنيا حولك؟ هل نعتذر إليك أم نعتذر منك؟ لقد ودعوك البياض والصمت والرحيل، أغلقوا غابة الشتاء وقطعوا أشجار الحزن واستظلوا العراء وأخذوا يتصايحون خلف جنازتك: أهو شهيد أم قتيل؟ بعضهم عمدك شهيدا ومنحك صك الغفران، وبعضهم أصر أنك لست شهيدا أبدا، وأنك كنت ابن لهو وأنه رآك في الليلة الفائتة تلعب كرة قدم في شارع مترب .. إنك تنظر إليهم بالابتسامة ذاتها التي فارقتهم بها، لكن ماذا يدور في رأسك وأنت تسمع صياحهم؟ أنت لا تزدريهم بالتأكيد، لكنك تريدهم أن يصمتوا وكفى. إلى شهيد بسيط كأحدنا وعظيم كبطل .. لقد رحلت، انتهت علاقتك بكل ما خلفته وراءك، ما عدت بحاجة إليهم، ما عدت تتذكر ألوان قمصانك، لا تتذكر سوى هذا الأحمر الذي كفنت به، نسيت زجاجات العطر التي وصلتك في عيد ميلادك، صار يوم استشهادك ميلادك الآخر، ما عدت تسمع كلام الناس صرت مبللا برحمات ربك وأصوات الملائكة، صرت إنسانا آخر، عاليا كسماء، مشعا كنجم ومبتسما على الدوام بانتظار أن يأتيك خبر رحيل الطغاة والمتجبرين والقتلة ، لكن أحسبك تنتظر أن ينتهي هؤلاء من تنازع سلطان الله في توزيع هبة الشهادة .. أنت شهيد لأن الله منحك هذا الشرف، فكيف أباح البعض لأنفسهم بعدك أن يجلسوا فوق قبرك ليتخاصموا حول مصيرك؟ عائشة سلطان | ayya-222@hotmail.com