منذ البدء وعالم الطفولة العربي يواجه محنته الكبرى وهي الكذب. الأطفال يكذبون كثيراً لينجوا من محن الأسئلة المحرجة، وليهربوا من أقفاص اللاءات المترامية من حولهم كما هي أشياؤهم الصغيرة. الطفل العربي لو لم يكذب فسوف يتلقى الصفعة التي تدير رأسه، وينسى حليب أمه الأربعيني. الطفل العربي لو لم يكذب لاستحال عليه العيش في محيط تتكاثر فيه اللاءات كالنحل الأبيض، تسوره بأسلاك حديدية شائكة إلى حد الاختناق. اللاءات تكبر والكذب يتخذ ألواناً وأصنافاً وأشكالاً تتناسب مع العمر الزمني للإنسان العربي. نحن اليوم في القرن الواحد والعشرين، وفي زمن الثورات العربية الملونة نسمع ونشاهد ما لا يخطر على بال أحد. في مصر بعد أحداث المباراة المشؤومة بين الأهلي والمصري البورسعيدي والتي راح ضحيتها أكثر من ثلاثة وسبعين شخصاً نتج عن ذلك الحدث حزمة من الاتهامات أولها وأكبرها المؤامرة الخارجية وثانيها دسائس النظام السابق، وثالثها تقصير وزارة الداخلية، ورابعها غفلة اتحاد الكرة، وخامسها وسادسها محافظ بورسعيد ومدير الأمن. ونتيجة لهذه الاتهامات فإن المظاهرات مستمرة والاشتباكات مع الجيش تتصاعد وتيرتها، ولا أحد يعلم إلى أين تصل الأمور، وأول شيء فعله المتظاهرون محاصرة “مبنى” وزارة الداخلية، ولا أحد يدري لماذا محاصرة جدار إسمنتي لا يعني شيئاً، إلا إذا كنا نحن العرب الأشياء المادية تمثل لنا تذكاراً، وتحمل أخباراً وتخفي أسراراً. الشيء الثاني إضرام النار في مبنى مأمورية الضرائب. إذاً ونحن نسمع كل هذه الاتهامات التي لا ترتبط ببعضها، إلا في شأن واحد وهو أنها تمثل جزءاً من النسيج الاجتماعي، وتعبر عنه في خيره وشره، وإذا آمنا جدلاً بمثل هذه الاتهامات فلِمَ لا نضيف المتهمين عاملاً سابعاً وهو الناس أنفسهم؟ فالذين قُتِلوا والذين قتلوا هم من أبناء مصر، والذين ألقوا باللهب وما جلب من مآسٍ أليسوا مسؤولين عما حدث؟ إن كانوا فلولاً أو ذيولاً أو حتى بعضا من حبال مهترئة لبقايا سابقة، ألا يجدر بنا أن نخرج من شرنقة الاتهامات للآخر، ونعترف أننا جزء من المشكلة، وما معضلة مصر وغيرها من البلدان العربية التي يتواجه أهلها بالنيران إلا هذا الهروب إلى الأسفل والخروج من دائرة المصارحة والمصالحة مع النفس، والاعتراف بأن لا مصر ولا غيرها سوف تنجو من مثل هذه الابتلاءات إلا إذا تنبه الناس إلى شيء واحد، وهو أن الثورات لا تعني الاستمرار في الاتهام للآخر، وتدمير كل ما يمكن تدميره، بل ما يجب فعله الآن إن كان “الثوار” صادقين مع أنفسهم الانتباه إلى مصر، وإنقاذ أهلها من وهدة الفقر. النوم في الميادين ينبغي ألا يدوم للأبد، لأنه لن يطعم من ينامون في المقابر، ولن يشفي ويعلم. مصر بحاجة إلى من ينقذ اقتصادها ويعيد مجدها، فأن نظل نلعن النظام السابق، ونشتم “الفلول” ونحلق في الفضائيات، كل هذا لن يجدي نفعاً. مصر بحاجة إلى سواعد صادقة ولا تحتاج إلى مزيد من خداع النفس. علي أبو الريش | marafea@emi.ae