أشياء كثيرة نفعلها لأنها تشبهنا أو لأننا تربَّينا عليها أو لأنها جزء اعتيادي من نسيج قيمنا، أن يصدقها الآخرون أو لا، أن تعجبهم أو تثير استياءهم، أن يعتقدوا أنها مزيفة أو غير حقيقية، أن يحسدونا عليها أو يُعجبوا بها، تلك مشكلتهم وليست مشكلتنا أبداً، فنحن ملزمون بأن نراعي مشاعر الناس وخواطرهم فيما يتعلق بمناطق خطوط التماس في العلاقات الاجتماعية التي تربطنا أو تجمعنا بهم، وملزمون بالتقيد بتوجيهات الذوق والسلامة، ومأمورون باحترام المناطق الفاصلة بين حقوقنا وحقوقهم ورغباتنا وقيمهم، ليس أكثر من ذلك ولا أقل!
يقول موظف لزميله: لماذا ترد على مكالمات المكتب التي ترِدُك من الناس، يجب أن يكون هناك من يرد نيابة عنك! وحين سأله عن الحكمة وراء ذلك، قال: لابد أن تحافظ على صورتك أمام الجمهور، أنت الآن مدير، ما عدت موظفاً (كحياناً) كالسابق، وقد كان هذا الموظف الذي لم يعد (كحياناً) قد ترقَّى منذ مدة إلى منصب أعلى، لكنه لم يجد أنه بحاجة لسكرتيرة، كما وجد أن أعباء وظيفته قد قلت وأن بإمكانه أن يرد على مكالمات العمل شرط أن لا يسترسل كثيراً مع المتصلين، كما أن الاجتماعات التي يحضرها حاول أن يقلصها للنصف فهي أكثر ما يضيع عليه الوقت! وقد كنت سألته مرة، ماذا يفعل الموظفون (الكبار) في الاجتماعات التي تمتد طيلة النهار؟ فأجاب لا يجتمعون طيلة النهار أصلاً لكن بعضهم يعتقد أن جواب (أنا في اجتماع) يضفي عليه وجاهة أكثر!!
مضى زمن كنت كلما اتصلت بأحد المديرين يرد عليَّ برسالة نصية قصيرة مختصرة (أنا في مييتنج)، هكذا يكتبها بانجليزية معرَّبة، فإذا آثرت الطريق الرسمي ردت السكرتيرة (المدير في اجتماع) وينتهي اليوم ويحل اليوم التالي وأتصل والمدير لايزال في اجتماعه، فأقول: أعان الله هؤلاء المديرين، إنهم يتحملون أعباء وضغط اجتماعات يهد الجبال، بينما نحن الفارغون من (الاجتماعات الهامة) لا نقدر ولا نحس بهم، حتى ضقت ذرعاً ذات يوم، فذهبت للمدير كي أنتظر خروجه فالأمر كان مهماً بالفعل (بالنسبة لي على الأقل)، انتظرت، وانتظرت، شربت كل شاي وقهوة المؤسسة والاجتماع لم ينته، أخيراً عرفت أن المدير لم يداوم أصلاً وأنني كنت في انتظار (غودو) بطل مسرحية صموئيل بيكيت!
لذا أكبرت في هذا المدير تصرفه التلقائي حين لم يطلب سكرتيرة، وحتى حين ألحَّت الإدارة العليا على ضرورة السكرتارية لأنها من مستلزمات المنصب، بقي الرجل يفعل ما عليه كما كان سابقاً، وأكثر ما أكبرته فيه أنني لم أسمع عبارة المدير في اجتماع إلا نادراً!
دخل عليه أحدهم يوماً فقال له: يا فلان لا تترك مكتبك خالياً من الأوراق والملفات، أنت تعطي لزوارك انطباعاً بأنك غير مشغول ولا قضايا ملحة تتلاطم على سطح مكتبك، فأجابه: بلى، يوجد من هذا الشيء الكثير لكنني أنجزها أولاً بأول، فنصحه: هذا خطأ كبير، ما يمكن أن ينتهي في يوم تباطأ فيه لعدة أيام، وما ينجز في أسبوع اجعله ينتهي في شهر، إن ذلك يوحي بأهميتك وباستغراقك في التفكير والبحث! والحمدلله أن الرجل ظلَّ يتصرف بحسب منظومة قناعاته وقيمه لا بحسب ما يعتقد البعض أنه من دواعي المنصب والوظيفة!!


ayya-222@hotmail.com