كانت قد وعدتني عندما التقيتها في مدينة ياخيموف التشيكية الصيف الماضي أن تزورني في دبي في أول زيارة لها للإمارات، هي سيدة فائقة الرقي، باذخة الوقار، مصرية الجنسية، منذ الوهلة الأولى التي التقيتها عرفت بأنها تقف على الضفة الأخرى من كل العبث الذي يحصل في بلادها، فالمحروسة كما كانت تقول (ما تستهلش) الذي يحدث فيها، كانت تتحدث بقدر، وتزن الكلام قبل أن تقوله، باختصار هي امرأة من زمن الحكمة والموعظة الحسنة، لا تمت بصلة ليوميات العبث والزعيق والفوضى، كانت ضد هؤلاء الذين يحكمون مصر اليوم، ذلك رأيها الذي تجاهر به بلا تردد، ولديها من الحيثيات والمنطق ما تقدمه براهين على قوة رأيها، كانت تقول: الذين يصلون للسلطة قادمين عبر بوابات الحرمان والنفي والزنازين يصيرون أشرس من الديكتاتور، بل إنهم ينزعون إلى تقليده حرفيا، تلك عقدة تاريخية متأصلة في تلافيف الدماغ البشري على مستوى التجربة الإنسانية منذ أزمنة سحيقة !
ومرت الشهور ولم تأت، ظل حبل الاتصال ممدوداً بيننا عبر قارتين وحين نتحدث أشعر كأننا نأتي للمحادثة من عالمين مختلفين، لقد تغيرت أحوال مصر تماما، وفي كل مرة تحدد موعدا للزيارة، يهل الموعد وينقضي ولا تلوح تلك السيدة كما أتوقع، في آخر مكالمة سألتها السؤال نفسه الذي أصبحت تتوقعه: متى سأراك في دبي ؟ فترد بنبرة أسى: أحوال البلد صعبة يا عائشة ؟ تعجبني هذه الـ” العائشة” حين تلفظها، أشعر أنني أمام امرأة من زمن مضا لشدة تهذيبها ورقي حديثها، أقول لها في محاولة إقناع فاشلة -أنا نفسي غير مقتنعة بها-: ظرف صعب وينتهي سيدتي، استغلي هذا الطقس البديع عندنا وتعالي، فتجيب: القلب موجوع على أحوال البلد والتفكير في الأولاد سيقتلني إن أنا غادرت !!
وأسألها السؤال تلو الآخر لأطمئن قلبي على مصر، فمصر تعنينا كلنا نحن العرب، لا أدري كيف! لكن مصر تحديدا بلد له خاصية المشاعية العاطفية والانتماء والمحبة، فكل عربي يشعر أن مصر بلده، وأنه يحبها دون حتى أن يراها، وأنه يعرفها جيدا بالرغم من أن قدميه لم تلامس ترابها ولم يشرب من ماء نيلها، نحن نعرف مصر من كتاب التاريخ والجغرافيا مذ كنا في الصف الخامس الابتدائي، ونحب مصر منذ تعرفت سنوات مراهقتنا على أغنيات عبدالحليم حافظ، وأفلام نجلاء فتحي ورشدي أباظة وحسين فهمي وسعاد حسني، ومنذ حفظنا قصائد حافظ إبراهيم وأحمد شوقي وقرأنا العقاد وطه حسين ونجيب محفوظ وأنيس منصور ويوسف أدريس، وعرفنا أين يقع تمثال أبوالهول؟ ومن بني الهرم الأكبر والأصغر؟ ومن هو عبدالناصر ؟ ولماذا هرب المتنبي من أرض الكنانة بعد هجائه كافور؟
سألتها بعد الأحداث الأخيرة : ألم تهدأ أوضاع مصر بعد ؟ ألا تعتقدين أنه بانتهاء حكاية الاستفتاء سيعود الاستقرار إلى مصر ؟ قالت بلهجة قاطعة: لا لا مصر لن تهدأ بهذه السرعة، البلد تحتاج معجزة لتستقر، إن ما يحدث في مصر قد أخرج أسوأ ما في المصريين - ليس كل المصريين - لكن أن نستقر ونعود كما كنا فالأمر صعب جدا، لن يعيدنا لهدوئنا سوى رحمة رب العالمين ..
ليس كالإيمان جدار صلب نتكئ عليه حين تغلبنا الحياة وصروف الزمان .. اللهم هيئ لمصر أمر رشد وصلاح .



ayya-222@hotmail.com