لو سلمنا جدلا، بمعطيات وخلاصات تقارير التنمية البشرية والثقافية، لتولّد لدينا اعتقاد بأننا نقبع في سنة ما، في الفترة من نهايات القرن التاسع عشر إلى مطالع القرن العشرين. لكننا في الواقع نعيش الآن وهنا، نستعد لتوديع عام واستقبال آخر، حيث تدلنا التقارير، التي تعدها عن حال الأمة مؤسسات مهتمة أو مهمومة، على جملة من التصدعات تصيب المجتمعات العربية في بنيانها الإنساني ومادتها المعرفية. فلنقرأ فقط بعض العناوين: الملايين يعيشون تحت خط الفقر، ملايين الشباب يتطلعون إلى الهجرة للخارج، هجرة فعلية للكفاءات العلمية، ضعف التعليم الرسمي والخاص، انسياق شرائح كبيرة وراء نعرات عرقية وطائفية ومذهبية وقبلية وجهوية، ازدياد مساحات الحضور الأجنبي ماديا ومعنويا في السياسات العامة وتكوين الرأي العام، غياب أو ضمور الدراسات المستقبلية، هشاشة الثقافة العامة على صعيد حركة التأليف والنشر والترجمة وبالتالي القراءة.. هذه العناوين، وغيرها، هي القاسم المشترك لكل دراسة جادة عن الأوضاع العربية في العقد الأخير. فماذا لو قرأناها بمفعول رجعي؟ أي ما هي الصورة التي سنحصل عليها، لو استعرنا تقنيات الواقع الإفتراضي، لكي نسقط تلك العناوين على “السنة ما” القابعة في زاوية من التاريخ العربي؟ بعيدا عن العشوائية في المقارنة، فلنختر سنة محددة. لتكن، مثلا، قبل مائة عام بالتمام والكمال. أي سنة 1912 ـ 1913، فكيف كانت حال العرب آنذاك؟ في الوقت الذي كان العالم يستعد للدخول في أجواء الحرب العالمية الأولى، كان العرب يستعدون للخروج من تحت الحكم العثماني الذي دام لخمسة قرون، وانتهى به الأمر لكي يصبح “رجل الشرق المريض”. احتدمت يومها الأشواق نحو التحرر والحرية والوحدة والعدالة والتقدم. كان نشيد فخري البارودي “بلاد العرب أوطاني” على كل شفة ولسان. وكان العقل العربي منشغلا بقضايا الحاضر والمستقبل من دون إعلان الطلاق مع الماضي، ولعل تيار الجامعة الإسلامية الذي وضع أسسه الفكرية الشيخ جمال الدين الأفغاني وعززه وتابع دعوته الإمام محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي، هو أبرز مثال على سمو العقل العربي آنذاك، وعلى تلك التوليفة المهمة ما بين الأصالة والحداثة.. وهي التي يسميها الدكتور محمد عمارة “السلفية العقلانية المتنورة” في مقاربته العميقة لتيار الجامعة الإسلامية. وقد ترافقت تلك الدعوة مع علامات نهضوية فارقة، تمثلت ببدايات انطلاقة تعليمية عصرية وقيام جامعات وطنية، ووضع ركائز للدولة الوطنية في المشرق والمغرب، وظهور أحزاب وحركات تحررية شكلت قاعدة أولى للاستقلالات التي ستتحقق لاحقا، والتي سوف تطلق عملية إنمائية كبرى في مختلف مجالات الحياة.. لن ينعم العرب طويلا بهذا المنجز، إذ سرعان ما سيصطدمون بعائقين فرضا وطأتهما. أولهما اتفاقية سايكس ـ بيكو التقسيمية الإستعمارية، والتي ستتجاوز مفاعيلها الإطار القانوني المتمثل باصطناع كيانات على حساب الوحدة المجتمعية، إلى الإطار السياسي المتحكم خلال العقود التالية. وثانيهما هجمة الهجرة الصهيونية والتي سينتهي بها المطاف بإنشاء الكيان الإسرائيلي كغاصب لأرض عربية أولا، وكحاجز بين المشرق والمغرب العربيين ثانيا، وككابح لتطلعات العرب نحو مستقبل أفضل ثالثا. تقارير التنمية البشرية والثقافية لن تعير اعتبارا لهذين العائقين. ستصف الداء بأعراضه وليس بأسبابه. ومن غير المؤكد إن مثل تلك التقارير سوف تدفع العرب لكي يواجهوا أنفسهم، وهم يستقبلون بحالهم الواهن عاما جديدا، لكن من المؤكد أنهم لن يستطيعوا رد تهمة جارحة إن طال ارتكاسهم، تصفهم بأنهم فلول هذا العالم، وفلول هذا العصر! adelk58@hotmail.com