- مرة.. في أول الستين
كنا لا نعرف بلداً قاب قوسين أو أبعد من العين
لا نعرف بحراً، ولا سفراً، ولا ركوب السفين
جاءنا من الساحل البعيد رجل مسكين
قال لنا: إن لديهم زرعاً ونخلاً وعنباً وطلع تين.
وإنهم هناك يعرفون البحر، ويعشقون السفر، ويركبون السفين.
لكنه هنا.. هارب بكفنه، ساعياً لرزقه، آتياً كالزبين.
قلنا له: إننا هنا أهل، أبوابنا مشرّعة، وقلوبنا بيضاء، واللقمة نقسمها على اثنين.
اشتغل بتحدير النخل، وصنع السعف، وجلب الماء، وبناء بيوت الطين.
ثم باع واشترى، سافر ورجع، واعتزل ببيت جديد، أمين.
اتخذ غرفاً فوقها غرف، وصادق نصارى الجيش، وما عاد ذاك المسكين.
كانت جيوبه عامرة، ودكاكينه فيها أوراق وأحمال وأرزاق.
كان يبيع القهوة والسكر والرز وأكياس الطحين.
ومرة.. في الليل، والوجوه أشباح زرقاء، عاجله نصل سكين
مات “المسكين”...
بين النخل.. وبيوت الطين!
- لما كانت تلك البيوت الطينية على بساطة بنائها تختزن الدفء والعافية ورائحة الناس، واليوم صارت جدران بيوتنا ملساء، زجاج بلا فرح حاضر، وإسمنت يوحي بحزن رمادي بارد، وإن غاب عنها صوت الأب، وتبعته الأم حاملة عطرها وطيبها، أصبحت تضيق علينا بجدرانها، لذا ونّ شاعر يوماً ما، وقال متذكراً:
يطري عليّه الوقت لي سار وأذكر فريجٍ حوله بيوت
برد الشتاء وزخّ أمطار ومتدفين بلبس البشوت
شُوفْ الدلال وضَوّ وكّوار وشيبه رضف بشالن وكوت
غوري زعتر حُوله النار عن البرودة دوم منعوت
حُوله يمع إكبار وصغار يتسمعون القول وسكوت
يحكي لهم يوم كان بحّار ويوم بندروا من صوب غنتوت
واليوم هذا الوقت لي دار وقت “الرسيفر” وقت “ريموت”
وش بَعْدّ يارن عن اليار لأول عليه يرد بالصوت
يزقر عليه من صوب ليدار يا ما حلاها ذيك لبيوت
وردة أو زهر توليب لذاك الصبي في عيده، والذي لا يحب أن يكبر، ولا يحب أن يغادر عشه الأول الذي تتقاسمه مياه أفلاج، ونخيلات خضراء وارفة، وطلعها نضيد، ولا طرقات ضيقة بين بيوت الطين، شكّلت عمره بحروف وصلصال ومعان وأغان وطين!


amood8@yahoo.com