يمثل الرقيب الموظف على الكُتب نفسه بأكثر من شكل، أهمها على الإطلاق تكوينه الشخصي، ويعمل على رفض بعض الكتب تخلصاً من عبء المسؤولية الممكنة في حال أي شك، وهي كُتب يظهر فيما بعد أنه لا عيب فيها لدرجة عادية أو حتى خطيرة. كما أن هذا النوع من الرقباء يدخل في صميم تركيبة المؤلف، فيصبح هو المؤلف نفسه، ويتم رفض الكتاب بناء على هذا التوجه، ما يعكس أن حدود الرقابة وفكرتها في المؤسسة الحكومية فردية إلى حد بعيد، وغير منظمة على مبادئ إجرائية واضحة. لا يعرف الرقيب الموظف مستويات السرد وتعددها، وأقطع بذلك على مسؤوليتي مستعداً لأي مواجهة مع الرقباء، ولا يعرف الدلالة التوالدية للمعنى؛ ارتباطاً بطبيعة الطرح الذي يعرفه هو القياس المباشر والخطابي للمفردات، وللقضايا الاجتماعية ذات الصلة المتعارف عليها ضمن التشدق والتنمق. وهو عندما يحكم بتكوينه الشخصي يضع نفسه رقيباً على كل الاختلافات الدلالية للممارسات الإبداعية للموضوع واللغة في آن. مرة أثناء رجوعي للإمارات، كان معي كتب عدة، ومن الغريب أن الكتاب متهم دائماً، وهذا يظهر من طريقة تعامل المفتش مع الحقائب، فكأن هناك وقيعة ما بمجرد ظهور كتب في الحقائب، أخذ جندي المطار يقلب في الكتب خبط عشواء ووقعت عينه على سطر شِعري به هاتين الكلمتين “الأرواح تتطاير”، ترك وظيفته من الناحية الإجرائية مستهجناً كون الأرواح تتطاير، واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، وترك كل الكتب قائلاً: ممنوع دخول هذا الكتاب، لم أدخل معه في نقاش سوى القول بضرورة إعطائي ورقة بذلك، وأن عليه أن يرسله لوزارة الثقافة، حيث كان سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، حينها وزيراً للثقافة، وكان قد أصدر قراراً بإلغاء الرقابة على معارض الكتب بالدولة وإعطاء أمر الرقابة للمؤسسة المقيمة للمعرض. كان قراراً فارقاً، خصوصاً من إعطاء الرقيب الفردي طمأنينة وظيفية؛ لئلا يقوم بدوره ضمن نطاق زائد الصلاحيات التي يربيها التخوف. وقد كان الإنترنت قد أصبح واقعاً حقيقياً وجميلاً وشاهداً على حرية العقل الإبداعي لكل فرد، ولم يعد بإمكان منظومة فكرية أو دينية التشبث بمبادئها وفقهها فقط، فالحياة اتساع وليست حظائر بشرية. سيظل أمر الخلاف الفكري والعقائدي حاضراً في الحياة إلى الأبد، وستظل الحياة شاهدة على الصراعات بين هذا وذاك، لكن من الناحية الإدارية، يجب أن تولي المؤسسات أقسامها الرقابية اهتماماً يليق بتطور التجربة البشرية، وذلك من ناحية استراتيجية الرقابة، ومَن هم موظفوها، وضرورة وأهمية ولزوم التجديد المستمر للعقد الاجتماعي بين المؤسسات والأفراد، كون الحراك المعرفي متسارعاً وقاهراً للعقول النافقة، فيجب ألا تقود العربة الحصان. ففعلاً؛ إن الأرواح تتطاير، ولم نعد بحاجة إلى أرواح لا تتطاير. amzf@live.com