في التفاصيل تكمن الحقيقة وليس في الصورة الكلية للأشياء، هكذا أعتقد، لكننا جميعاً أو غالبنا على الأقل تأسرنا الصور، فنقع في غرام نسقها المبهر، لا أقصد بالصورة هنا، الصورة الفوتوغرافية فقط، ولكن المشهد العام للأشياء، فمنظر قرية جميلة على بطاقة بريدية من تلك التي نشتريها من الأكشاك والمحال التي تبيع التذكارات لا يمثل حقيقة القرية، القرية في حقيقتها صوت وصورة ورائحة وبشر وحيوانات وتفاصيل بلا نهاية، القرية مكان يحوي الكثير من المتناقضات، لكننا نراها في الصورة مكاناً براقاً متناسقاً جميلاً وضاجاً ببذخ الطبيعة، لا ضجيج في الصورة ولا فضلات حيوانات ولا أصوات مزعجة، ولا روائح الأسمدة والخيول وبقايا النهر، هذه التفاصيل هي الحياة وهي القرية في حقيقتها!
هذا ما فكرت فيه وأنا أستمتع بقراءة رواية “شقيق النوم” للألماني روبيرت شنايدر، والتي ترجمها لمصلحة مشروع كلمة الدكتور نبيل الحفار، والرواية مختلفة من حيث الفكرة والمعالجة الأدبية، ابتداء بعنوانها الملغز، فما هو شقيق النوم وما حكايته مع بطل الرواية الموسيقي يوهانس إلياس آلدر؟ تفاصيل القرية الألمانية التي يرسمها المؤلف لحياة الناس في قرية اشبرغ الألمانية عام (1892)، تجعل القارئ يتوقف عند التفاصيل، فأهل ذلك الزمان من الألمان كانوا يعانون ويلات الطبيعة وتقلبات الطقس والفقر والأمراض، أي أنهم لم يكونوا منذ الأزل بهذا التقدم والتطور والغنى والنظام الذي نراه اليوم ونحن نتنقل بين قراهم وأريافهم ومدنهم، هذه الحقيقة تجعلنا نكف عن اعتبار التخلف قدراً والهزيمة حقاً حصرياً من نصيب العرب فقط!! ماهي حكاية الموسيقي الشاب الذي توفي باكراً بسبب الحب؟ لقد استقرت في وجدان إلياس آلدر فكرة فلسفية خلاصتها أن من يحب لا ينام، وبما أن قلبه قد اشتعل بحب ابنة عمه إليزابيث وبشكل لا يوصف فقد قرر أن يتوقف عن النوم، كانت المعادلة العشقية التي وضعها لنفسه ليضع من خلالها حداً لحياته أن النوم زمن مهدور، وأن الإنسان النائم يكون ميتاً أو أنه لا يعيش أصلاً، ولذلك قيل النوم هو الموت الأصغر أو أن النوم شقيق الموت، إذن فالنائم ميت والميت لا يحس بشيء وحتماً لا يحب، وعليه فمن أراد أن يكون عاشقاً حقيقياً فليتوقف عن النوم تماماً ليثبت أنه يحب المرأة التي شغف بها!!
حين تغوص في أعماق الرواية وتتنقل بين طرقات القرية ومطابخ القرويات والأمراض التي تصيب الصغار والعلاقات الباردة بين الأزواج، والحرائق التي تلتهم الغابة وأكواخ الفلاحين ومواشيهم، تعرف أن هناك حياة بائسة جداً عاشها هؤلاء الأسلاف من أمثال إلياس آلدر الذي انتهى ميتاً، بعد أن توقف عن النوم تماماً لأجل أن يثبت أنه جدير بحب كان واضحاً من البداية استحالة أن ينتهي نهاية سعيدة.
شقيق النوم، سيرة حياة موسيقي لم يعزف شيئاً خارج قاعة كنيسة القرية ولم يسمع به أحد ولم يعلمه، ولم يتعلم الموسيقى من معلم، لقد شغف بآلة الأرغن التي يعزف عليها في قداس الأحد بالكنيسة ولايزال طفلاً، وبمجرد أنه أراد أن يعزف وجد نفسه يعزف بشكل يجعل الجميع يصابون بالذهول، دون أن ننسى الإشارة إلى أن الصغير ولد بحاسة سمع غير طبيعية أبداً، لم يعش الشاب أكثر من 24 عاماً، قضى السنوات الأخيرة منها يقظاً ليله ونهاره، مثل هذه التفاصيل هي ما يصنع أسطورة الأماكن عادة وليس المشهد الكلي البارد الذي تمر عليه أعيننا ببلاهة سائح!!


ayya-222@hotmail.com