في طفولتنا، قالت لنا الجدات كلاماً كثيراً من قبيل النصائح التي لابد منها، وفي تلك الطفولة لم يكن هناك شيء نصر عليه أكثر من الإنصات إليهن، وعيوننا إلى الأرض على أساس أن الأولاد المؤدبين لابد أن يقفوا مطأطئي الرؤوس في حضرة الكبار، لكننا كنا نسمع النصائح بأذن ونخرجها من الأذن الأخرى.. كنا نعتقد أن دور العجائز أن يقولن ومهمتنا أن لا نأخذ بما يقلنه، فأغلب الذي ينصحننا بعدم فعله هو ما نحب أن نفعله بمنتهى الشغف، وحتى حين تثبت المطبات التي نقع فيها أن كلامهن صحيح، لم نكن نندم ولكن نصر على أننا في المرة التالية سنكون أكثر حذراً، ولكن ليس أكثر ابتعاداً!
نصحتنا العجائز بألا نتوغل في مياه البحر حين كانت بيوتنا تغسل أطرافها بأمواجه كل صباح، ولطالما غرقنا لأننا لم نسمع النصيحة لكننا تعلمنا السباحة في بحور أكثر توحشاً حين كبرنا.
لو أننا استمعنا لتلك النصائح لكنا غرقنا في «شبر ماء» كما يقول المصريون عند كل تجربة ومطب. ونصحننا بأن لا ننظر كثيراً في المرايا فالشياطين توسوس للإنسان كثيراً، ونصحننا بأن نقول كل ما نفكر فيه لكل الناس، وأن لا ننظر إلى ما في بيوت أصدقائنا حين نذهب إليهم ونرى عندهم ماليس عندنا، فذلك يدفع للغيرة والحسد ويعلم الإنسان أن ينظر إلى ما في يد صديقه ويتمنى زواله عنه.
حين كبرنا وجلسنا على كراسي وطاولات المدرسة وجاءنا معلمون من وراء البحار والسماوات البعيدة، تعلمنا أن الدين يحض المسلم على أن لا يقول أسراره وأمنياته ومشاريعه لكل الناس، وإذا أصيب بشيء فعليه أن يصبر وأن يستعين بالكتمان، فهناك الحاسد والغيور والمتآمر والحقود والذي يضحك في وجهك بينما مافي قلبه لايعلمه إلا الله، فاستعن بالكتمان حتى تنجز ما بين يديك، فلطالما خرب الإفشاء والثقة أكبر الأحلام وسرق أكبر المشاريع. أتذكر عبارة جدتي الشهيرة التي فهمتها متأخرة جداً “انتبهي جيداً فألف عدو ولا واحد متحفي”، كانت كلمة متحفي كلمة غريبة لم يدفعني أي سبب للسؤال عن معناها للأسف الشديد!
فالعدو الظاهر الذي يجاهر بكراهيتك وبعداوتك أهون ألف مرة من شخص لا تعرف عنه شيئاً، رغم قربه منك ومعرفته بكل تفاصيلك وأمور حياتك، بينما هو بالنسبة لك لغز غامض لا تدري أهو معك أم ضدك يحبك أم يبغضك.. يثير الشك والريبة رغم قربه وحرصه على إظهار اللطف والمودة لك، لكنه شديد الحذر بحيث لا يترك خلفه أثراً لمعرفة مكنوناته ونواياه ومشاعره وتفاصيل حياته، مثل هؤلاء الأشخاص يعدلون في خطرهم ألف عدو ظاهر، فالعدو الظاهر عدو تعرفه جيداً بكل محدداته وأسلحته وتستطيع اتقاءه، بينما هذا الحريص على الغموض لا تدري من أين تأتيك ضربته القاتلة!!
ليتنا تعلمنا مما قالته العجائز، فقد كتب صحفي مغربي منذ مدة مقالاً جاء فيه أنه استوعب نصيحة كتمان الأحلام متأخراً، بعد أن باءت بالفشل الذريع كثير من مشاريع أحلامه التي لطالما أفشاها لكل من حوله، وبقي حلم جرب أن لا يفشيه وتذكر نصيحة قالتها له أمه يوماً، وبالفعل تحقق الحلم كأجمل ما يكون بعيداً عن العراقيل والمطبات.. هناك من يسوؤه حلمك الجميل فلا تقصص رؤياك على إخوتك، كما قال النبي يعقوب لابنه النبي يوسف!!


ayya-222@hotmail.com