منذ عدة سنوات وقعت في يدي رواية فرنسية مترجمة بعنوان «الموت حباً» كتبها بيار دوشين في العام 1981، وقد تحولت فيلما نال الكثير من الشهرة والنجاح، الرواية تحكي حدثاً اعتيادياً جداً فيما لو كان قد وقع في أيامنا هذه ليس في بلد علماني متحرر كفرنسا، ولكن في أي بلد آخر، لكن الإشكال أن الحكاية قد تتابعت أحداثها إبان العام 1968 وفرنسا تشتعل تحت تداعيات اضطرابات مايو من ذلك العام، الطلاب الذين أرادوا أن يكونوا راشدين قبل الأوان فيقودوا مصير الدولة ففجروا تلك الثورة التي كان من نتائجها موجة التحرر التي اجتاحت فرنسا وأطاحت بالكثير من قيم المحافظة الاجتماعية في تلك الأيام الخوالي، بين تفاصيل تلك الأحداث نسج الكاتب فصول قصته!
دانيال امرأة تجاوزت الثلاثين تعمل مدرسة في إحدى المدارس الثانوية وهي امرأة تؤمن بقيم الثورة والتحرر، وقعت في غرام أحد طلابها (جيرار) ابن المناضل الذي تحمس لأفكار تلك الثورة وانغمس فيها، تلك الأحداث أثبتت فيما بعد أن الأطفال أرادوا أن يكونوا راشدين أكثر مما ينبغي بينما عاد الراشدون أطفالاً حقيقيين، فالمعلمة المتزنة صاحبة القيم (دانيال) لم تدرك أنها تنغمس في قصة حب تكتب نهايتها، وأن جيرار الذي لم يتجاوز السابعة عشرة من العمر ليس سوى طفل في نظر القانون والمجتمع، وبالتالي فهي تستغله وتلوث طفولته كما قالوا ولا بد من تطبيق أقصى العقوبة عليها، فبعد أن هدأت الاضطرابات وعادت الأمور أكثر يمينية في فرنسا هدأ الناس وبدأ الجميع يعيد حساباته وفق مصالحه، هذا ما يحدث عادة بعد فورة الثورة والاضطرابات ووحدهم الذين يصدقون طوباوية الأحلام الثورية يدفعون الثمن مرتين!!
لقد وضع والد الفتى (جيرار) كل أحلامه الثورية وكلامه المدجج بالحماس ضد الدولة ورجالها القمعيين والرجعيين جانباً وذهب إلى أعتى أولئك الرجال رجعية ليتفق معهم على الهجوم على المرأة الخارجة على تقاليد المجتمع، وهذا ما شكل صدمة لدانيال وجعلها تتمسك بحبها للشاب الصغير كنوع من العناد والوقوف في وجه تناقضات الثوريين وأدعياء التغيير، إلا أنها استسلمت في النهاية وكانت ضحية لتلك الصفقات المعروفة، وأخيراً ظهرت في الصفحات الأولى كمتهمة باستغلال أحد طلابها بعد أن اتفق الكبار وتناسوا مبادئهم وحظي جيرار ودانيال بالفضيحة المدوية، هكذا تنتهي الأحلام الكبيرة غالباً عندما توضع على طاولة المفاوضات والمقايضات!!
وسواء تتبعنا الخيط في أحداث قصة حب غير متوازنة كما هو الحال في رواية بيار دوشين أو في حديث مسترسل لكاتب في حجم الأستاذ محمد حسنين هيكل أو ضمن ما نشهده من أحداث في بعض شوارع مصر أو مدن ليبيا وتونس أو .... فإن الحكاية واحدة، بل تكاد تكون متشابهة، حتى حين تناقش فشل الذين يقبضون على مصير الأحداث اليوم بعد الثورات فإنك لا تحتاج جهداً لتكتشف التناقض بين طوباوية الشعارات التي لطالما رددوها على أسماعنا وبين سيل الشتائم التي يقذفونها في وجهك لمجرد أن تختلف معهم، ففي النهاية الجميع ملتزم بنهج المصلحة وليس نهج الإصلاح العام، المناضل وضع الشعارات جانباً واتفق مع الدولة التي ثار عليها من أجل استرداد ولده من حب المدرسة، والثوريون يشعلون الشوارع ويتقاتلون من أجل الكرسي والسلطة، الشعار الثابت هو: المصلحة أولاً، ذلك الشعار الذي لطالما تبرؤوا منه وادعوا أنهم بعيدون عنه وفي الحقيقة تلك كانت الكذبة الكبرى التي صدقها الكثيرون!


ayya-222@hotmail.com