يتعامل الكثيرون، الكثيرون جداً مع مواقع التواصل الاجتماعي على أنها أدوات لا يليق التعامل معها بجدية، كونها لا تقدم حقائق بقدر ما تقدم من إشاعات وزيف وغث، وبجانب هؤلاء انشغل آخرون في رصد سلبياتها الأمنية وتداعياتها الكارثية على علاقاتنا الاجتماعية وإدراكنا السياسي وتوجهاتنا الفكرية! في مقابل ذلك، تمضي مواقع التواصل الاجتماعي إلى طريق اللاعودة في التأثير على الحياة الإنسانية، على الرغم من كونها مجرد أدوات للنقل أو قناة بين أطراف. المزعج فعلاً هو ذلك القدر الكبير من الانشغال بأمور لا يد لنا في إيقافها، وتجاهل ما نملكه وما نحن عليه بمسيطرين، وهذا تماماً ما يفعله الكثيرون ممن كان يُتوقع منهم دور مختلف تماماً.
العقلاء وأصحاب الفكر والمبدعون والمتخصصون، تلك النخبة التي تعد رأس المال البشري الحقيقي لأي مجتمع، هؤلاء قرروا النأي بأنفسهم بعيداً عن العجلة، وكل ما فيها من أدوات أصبحت القناة التي يتحرك فيها الفعل البشري. وكثيراً ما تصل إلى سمعي ردود من أعلام في مجالاتهم، يتحدثون عن مواقع التواصل الاجتماعي باستهجان، لدرجة قد يصل الأمر إلى الاستخفاف بك إن ثبت وجودك في هذا العالم. ففي رد عبر الإذاعة البريطانية لكاتبة مهمة حول تعاملها مع موقع تويتر أو فيسبوك، أجابت بحدة مغلفة بالتوبيخ للمذيع الذي ألقى عليها السؤال متحججة بأن هذا العالم ضحل، ولا عمق فيه، ولا يحوي غير التفاهة. تماماً وبهذه الطريقة أسمع وأقرأ رأي الكثيرين حول مواقع التواصل الاجتماعي.
بما أن الأمر كذلك، أين دورك أيها المبدع والمفكر أو المثقف في تحويل محتوى هذه المواقع لما هو جاد ومُلهم؟ من المهم هنا التأكيد على أن مواقع التواصل الإلكترونية ما هي إلا أوعية نحن من نقوم بملئها بما نريد، وعليه أين المحتوى الذي يجب أن يكون محل الضحل والتافه الموجود حالياً؟ أين دور المثقف في زيادة المحتوى العربي في الشبكة الدولية؟ أين دور المبدعين في إلهام الآخرين وتحفيز المواهب؟ أين دور العقلاء في دحض التحريض بلغة رصينة غير مبتذلة ولا تسفه الآخر؟ أين دور المتخصصين في إيجاد اقتصاد معرفي ينمي المعرفة ويتشارك بها مع الآخرين، ويحولها لمنتج له عوائده؟! عندما يغيب هؤلاء فهم يحرمون بقصد وعن عمد العامة من الاختيار بين الغث والسمين، ويتركون الإنسان العادي والأجيال الجديدة عرضة لمفردة واحدة لن يجدوا غيرها ليقتدوا بها.
لم يعد تواجد المبدع أو المثقف أو العاقل أو المتخصص ترفاً يسمح له بمساحة جديدة وشعبية مضافة، أو حضور شكلي، بل أصبح مسؤولية وطنية تمليها عليه دوافعه الأمينة والصادقة في إحداث فارق تنموي عميق في مجتمعه؛ فعندما يقوم روائي بفتح وسم لتحفيز أصحاب المواهب لكتابة القصة القصيرة جداً، ويقوم بتشجيع وتوجيه المشاركين، وعندما يقوم لغوي بتصويب الأخطاء اللغوية والإملائية للمشاركات، وعندما يقوم الفنان التشكيلي بتغذية الذائقة الفنية لمتابعيه، ويقوم البيئي بنشر خبراته في الحفاظ على الأرض، والاقتصادي في فتح أفق إنتاج بديلة ومثمرة، عندما يعمل كل هؤلاء وغيرهم من المتخصصين في تداول المعلومة وإعادة إنتاجها بما يفيد المجتمع، وقتها سيكون الحديث عن الغث والتافه والضحل الغالب في مواقع التواصل الاجتماعي من الماضي.


als.almenhaly@admedia.ae