ليس لدي أدنى شك في أن للتكنولوجيا تأثيرات إيجابية قصوى في حياتنا، وأن هذه التأثيرات قد قادت حياتنا ووجهتها وعملت على تسهيلها وتجميلها وجعلها أكثر راحة واختلافا من ذي قبل، هذه قناعة حقيقية قد يعارضها البعض من أعداء التكنولوجيا وأنصار البساطة والثقافة الحياتية الكلاسيكية أو التقليدية، وليس في الأمر اعتراض، فنحن نقيم الأشياء من منظور براجماتي عادة (منظور قائم على مدى استفادتنا وتحقق مصالحنا) لكنني بالرغم مما أجده في نفسي من المرونة والليبرالية في التعامل مع الرأي الآخر - ربما بحكم مهنتي وتاريخ الكتابة الذي انتمي إليه - إلا إنني أتحفظ على من يقول أن التكنولوجيا قد كرست حالة التواصل الاجتماعي بين الناس أكثر من ذي قبل بحكم قدرتها الفائقة على إلغاء المسافات، والتغلب على حاجز الزمن.
كتبت في هذه الزاوية منذ مدة مقالاً خلاصته أن التكنولوجيا الحديثة الفائقة القدرات والإمكانيات أثرت في علاقاتنا الاجتماعية والإنسانية بشكل لا أجده إيجابيا كما يعتقد البعض، فهي تعمل بشكل متنام ومستمر على إعادة إنتاج علاقاتنا ومقاييسنا الاجتماعية وكذلك معاييرنا الإنسانية ونظرتنا للأشياء بشكل متناقص، ذلك يحدث كل لحظة، ولأننا نراه يناسبنا ويتسق مع رتم الحياة السريعة والمعقدة التي نحياها فإننا لا نفكر في الأمر كثيرا أو لا نتوقف عنده طويلا، فطالما أن عجلة الحياة تدور كالماكينات في أي مصنع، فالأمر مطمئن بالنسبة لنا ولا شيء يدعونا للقلق أو التخوف، هذا ما ادعوه بالمنظور البراجماتي للأشياء !
من قال إن التكنولوجيا الحديثة القائمة على ثورة الاتصال والمعرفة تقوي العلاقات الاجتماعية ولا تخلخلها ؟ من قال إن مقولة ابن خلدون ( الإنسان كائن اجتماعي بفطرته ) مقولة تتكرس أكثر عبر مواقع التواصل الاجتماعي وعبر وسائل الاتصالات الذكية ؟ هل تعتقدون معي بان (صباح الخير) كتحية جميلة إنسانية محملة بالمودة والأمنيات هي نفسها عندما نقولها مباشرة لمن نحب كما عندما نرسلها عبر رسالة نصية جامدة ؟ كيف سيكون جوابنا بعيدا عن ذهنية التبرير التي أصبحنا نجيدها أكثر من أي فعل آخر عندما يتعلق الأمر بتخليص أنفسنا من أية أعباء أو مسؤوليات ؟
هناك أصدقاء وإخوة لا يسمعون تحايا أو أخباراً أو طلبات أو تمنيات أو دعوات بعضهم بعضا إلا عبر تويتر أو الواتس اب أو الرسائل النصية القصيرة ؟ هل يأتي ذلك من منطلق التوفير المادي ( توفير ثمن المكالمة ) أو توفير الوقت ( لأن الثرثرة في الهاتف تستغرق وقتاً طويلاً ) أو لرغبتنا في التواصل المريح فانت تتواصل حيثما كنت وكيفما كنت دون حرج ؟ أو أن المسألة مجرد اعتياد على سلوك عام يسلكه كل من يحيط بنا ؟ فانت اليوم ستبدو كائنا من الفضاء إذا قلت بأنك لا تملك هاتفا متحركا أو أنك لا تملك حسابا على الفيسبوك أو تويتر أو الواتس اب، إن النادر اليوم هو أن لا تنظر إلى موبايلك بشكل دائم وفي كل مكان، أصبحنا وكأننا نتواصل مع الموبايل عبر الناس وليس العكس، لقد تحولت الوسيلة إلى غاية وإلى رسالة في الوقت نفسه.
الذين يتزاورون تبقى عيونهم معلقة بأجهزتهم بانتظار الرسالة والتغريدة والمنشن والتعليق والرد والبرودكاست وال..... وكأن هذا الذي يجلسون إليه كائنا لا وجود له، أشعر بان التكنولوجيا قد أعادت إنتاج أخلاقنا الاجتماعية أيضاً وبشكل مباشر وواضح باتجاه العملاتية ( السلوك العملي الفج ) والبرجماتية والأنانية والفردية والتوحد، بالرغم من أنها فتحت لنا فضاءات العالم وقربت لنا كل البشر ووضعت بين أيدينا كل الأخبار والمعلومات بل وأكثر من ذلك بكثير، لكنها أخذت إحساسنا الإنساني بحرارة العلاقات المباشرة والسهلة والقريبة من شرطنا البشري والإنساني معا.


ayya-222@hotmail.com