ميزة الشعر العربي أن ألحانه وأوزانه تتسع لاحتواء جميع المشاعر الإنسانية التي قد تتشابه، لكنها تأخذ طابعا خاصا لكل حالة متفردة. ولما كانت لغة الشعر متعددة المعنى، مسكونة بقابلية التأويل والترميز، فإن بوسعها أن تجد في نفس كل منا ما يستجيب لمواجدها، وها هو شاعرنا ابن زهر الحفيد يضرب في هذه الموشحة على إيقاع الفقد فيقول: هل ينفع الوجد أو يفيد أم هل على من بكى جناح يا منية القلب غبت عني فالليل عندي بلا صباح وهذه لحظة إنسانية رمادية، تستحضر معنى اللاجدوى فى تصاريف الحياة، فلا يبقى لنا سوى أن نكف عن لوم من يبكي أو من يضحك، فهما يتشابهان كما يقول المعري، لكن شاعرنا يظل في منطقة الأسف والحزن لغياب منية قلبه: أفديه من معرض تولى لا عيــن منـــه ولا أثـــر عذبني عني.. فليس إلا صبر على الدمع والسهر ويفعل الشـوق ما يريـد في كبـــد كلهـا جــراح يا مخجل البدر لا تسلني عن جور ألحاظك الملاح ومع أن هذا الفقد موقوت، لأن المحبوب معرض وهاجر، فلا يملك الشاعر سوى أن يفديه بنفسه، لأنه خلف في قلب عاشقه عذاب الهوى. وعندما نتأمل صيغة “يا عين عني” وهي قابلة لقراءات عديدة ، نجد أنه يطلب من عينيه أن تنوب عنه في الاستجابة للموقف بالبكاء. أو يقول لها “إليك عني” أي اتركيني فلا جدوى من بكائك، أو تكون كلمة “عني” قد صحفت من كلمة أخرى مثل “عيني” أي أن حبيبته هي سواد عينه. ثم لا ينسى الشاعر أن يتغزل في محبوبته بعبارات منها أنه مخجل البدر في حسنه، وظالم القلب في لحظه، وإن كان لا مفر له في نهاية المطاف من التسليم بقضاء الحب وقدره، لأن الشوق يفعل ما يريد: زاد على بهجة النهار من حسنه الدهر في ازدياد لحظ له سطوة العقار يفعل في العقل ما أراد خد كالورد في البهار يقطف بالحظ أو يكاد وذلك المبسم البرود حصاه در وصرف راج أو مثل ما قلت ماء مزن يسقى به يانع الأقاح لما كان العاشق طويل الليل بلا نهار، فإن المعشوق يزيد على بهجة النهار حسنا متزايدا، على أن سطوة هذا الحسن لا تظهر في أقوى تجلياتها سوى في سحر النظر الذي يفعل ما يريد في الخد الذي يفوق الورد في حسنه، مع أنه يكاد يقطف بمجرد النظر إليه، ثم ينثني على المبسم البرود الذي تتلألأ فيه الأسنان كالدر ويكون اللعاب كالخمر، ثم يتدارك الشاعر بأنه قد يكون من الأفضل أن يكون الريق مثل ماء المزن الصافي وهو يسقي يانع الأقاحي. ونلاحظ على التو أن مفردات الطبيعة الأندلسية، ومعجم الغزل المعهود يقدمان للشاعر ألوانه التي يرسم بها محبوبه.