يغادر الشاعر المكان، ويبدو أثره جلياً وحروفه مشعة على المدى الجميل، تبقى روحه المتجسدة في ثناء اللحظة، وله ثمة وجد في كل انطلاقة فكرية، كأن رؤيته وذاتيته حازت تشبعها في حيز المكان. وللشاعر بالذات حبر الألم وثورة الإحساس النابعة من الحياة المحيطة، ومن خلايا صور إبداعاته المستشفة من أحلامه التي ترفرف على صفحات الصباح لتشع النور على سائر الطبيعة، ولتتماهى مع الوقت مهما بلغ الغياب أو استدار حول نفسه.. يظل الشاعر حاضراً متجسداً بلغة الزمن مكتملًا مع الحضور لا تتوارى سيرته ولا تخفى مكانته، ولا تذهب بعيداً ذائقته الجمالية. حين رحل الشاعر نبيل بوزرقتين عن مدينته أبوظبي كأنه رحل عن جذورها ورائحتها المشبعة في دمه، لأنه عاش فيها شاعراً جميلًا يزهو ويتندى في شوارعها وطرقها، يجوب معالمها، يصطفي بظلالها ورؤاها، رحل الشاعر بهدوء، لم يودع المنابر، ولم يبحث مع المدينة رحيله مثلما يفعل سائر الشعراء، ولم يطلب حفل وداع تقال فيه الحكايا، حمل روحه وودع أحلامه الجميلة، وذهب الى أحلام أخرى تنتظره على منابع الصعيد الجميلة.. هو يخطو ويصعد بالحياة الى حيز الشعر المختلف، هو يتأمل ويكتب ويشعل المكان بابتسامته المعهودة، لذا يغترب المقهى الذي كان يجلس فيه والشارع الذي كان يمر عبره، والنوافذ التي يطل منها الى البحر، وتبقى الكتابة لها رائحتها والصور تعد بشعرية توشك ان تقدم ضمن مواسم قادمة. بوزرقتين شاعر يوشك ان يسكن القصيدة، بل وأن يدللها بالحكايات، يزهر مع صفوها وخياله يلامس الفكرة الإبداعية يؤرقها بالابتكار وباللغة الشعرية الموغلة بالمعنى، يرسم لها الصور الفنتازية، يقلدها بالشكل الفلسفي الجميل، فهو شاعر مختلف، وكتابته مختلفة عن السائد فمن الطبيعي ان تتسع دائرة الرؤية حول القصيدة لدى الشاعر ويتسع عالمه الخاص، فلا تراه يبحر ضمن التيارات الشعرية، بل له تجربته الخاصة يغذي بها القصيدة، وله طقوسه ومنهجه يحاور من خلالها الذات، ويستشف القارئ بأنه أمام شاعر له خصوصيته، وهذا ما ادركه الحضور في أمسية الصيف المنصرم، حيث قدم الشاعر تجربته. كان ضمن هذا اللقاء قراءة أخيرة من تجربته الشعرية، والتي برزت فيها قصيدة بعنوان “القي بعظامي بالمدفأة”، حيث تختزل القصيدة تجربة الشاعر وتحيي بكثير من ملامح التوهج لديه، بل تعتبر كل مفردة شعلة من الأفكار تدار خلف المفهوم العام للكتابة الشعرية لديه، فالشاعر قدم الى ابوظبي مبكراً تاركاً وراءه صعيد مصر وبداية التحريض الأولى والشرارة التي لم تطفأ، بل استمرت في التوهج الإبداعي، فكتب جل كتاباته على كورنيش ابوظبي وتحت فضاء الصحراء التي لا تختلف عن مناخات الصعيد، فالحنين لدى الشاعر متبادل في الحضور، وفي الرحيل يظل يحمل قاموسه الشعري وصور ذكرياته التي عاشها، يحمل ملامح الأصدقاء في حقيبة الزمن، ولايزال على تواصل مع شريحة كبيرة منهم.