الصورة، مرة جديدة، تأتي من بغداد. تمثال آخر على الأرض. تستعيد معه تلك الظهيرة الملتبسة من عام 2003. تحتار: أكانت لحظة رائعة أم مروعة؟ تمعن في الصورة الجديدة: يرتكن الرأس، صاحب العمامة المميزة، فوق أسفلت الشارع، تسنده بضعة أحجار وإطار سيارة مهترئ. تتأمل الوجه البرونزي الصامت. ارتسمت ملامحه بتغضنات الدهر. سواد وصدأ وتراب. لكن التمثال هذه المرة ليس منبوذا. صبي صغير يحتضن ما استطاع من الرأس الهائل، ويطبع قبلة على أعلى الوجنة. ينتظر مؤسس بغداد وبانيها أبو جعفر المنصور (712 ـ 775)، أن يستعيد مكانه ومكانته. لبّت السلطات الثقافية العراقية هذه الأمنية، فبدأت بإخضاع التمثال لعملية ترميم، في إطار الاستعدادات للإحتفال ببغداد عاصمة للثقافة العربية للعام 2013. مع صورة التمثال الذي أنجزه سبعينيات القرن الماضي، النحّات العراقي البارز خالد الرحال، تمثل محطات من التاريخ أشدها مضاضة القريب منها. فالتمثال نفسه عصفت به العاصفة العراقية بعد العام 2003. نسفت قاعدته في ضاحية المنصور من جانب الكرخ، ونفي من مكانه كتمثيل لنفي ما يمثله في التاريخ، أو نكران التاريخ بمجمله، إلا ما وافق الهوى... حينما تقرأ سيرة أبو جعفر المنصور، فإنك تقع على طراز خاص من الحاكم العربي المشتهى. تغلب الحكمة فيها دسائس السياسة وشهوات الحكم. تصبح تلك الإحترابات التي عصفت بالدولة العربية في نهاية العهد الأموي وبدايات العهد العباسي، مجرد تفاصيل. المهم في الأمر هو المجتمع والدولة، وبالتالي الحضارة التي أنشأتهما وامتدت بهما. وقد كان لها أبو جعفر المنصور. فقد نهض للخلافة مكتمل التجربة والبنيان الفكري. أدار ظهره للمدن التي كثرت فيها الإنقسامات، مثل الكوفة والبصرة، وأنشأ مدينته على ضفة دجلة واضعا بيده حجر الأساس سنة 145هـ (762م). أدرك فورا أن من سبقه أسرف في غياهب الفلسفة وغيبيات الفكر. عبث المتكلمون بأسس العقائد، وأورثوا الأمة عموميات المقولات وهزّلوا ضوابط المناهج. اختلط غبار المعارك الفكرية، بغبار صراعات السياسة والمصالح. في بغداد بنى المنصور “داتا” معرفية واسعة. جعل “بيت الحكمة” العقل المدبر للدولة. عرف ما ينقصه، فطلب من إمبراطور الروم، كتب اليونان في الطب والهندسة والفلك والحساب. لا حاجة لمزيد من كتب الفلسفة. وراح أول مركز عربي للترجمة ينقل العلوم التطبيقية تحت إشراف الخليفة نفسه. عشرات المترجمين والنسّاخين والخازنين والمجلّدين، يتولون القيام بأكبر عملية تلقيح معرفي وثقافي في التاريخ. باشر المنصور، خلال عهده، شؤون الخلافة بدأب رئيس مجلس إدارة محنّك. يحسن اختيار الولاة والعمّال ورؤساء الدواوين. يتابع ويحاسب. ويضبط المال العام بطهارة وقفية. والأهم من ذلك كله، أنه أبعد عن بطانته أصحاب الغرض من المتملقين والمستشارين. ولعله الحاكم العربي الأول، الذي أقصى المدّاحين من الشعراء والحافظين، وأوقف أعطياتهم، مبينا إنه وغلامه وجاريته يحفظون كل قصائدهم. ولعل حكاية الأصمعي معه، من أطرف ما حفظته المجالس. فقد حاول أن يتوسط لزملائه عند الخليفة، ويستعيد “عطفه” عليهم بقصيدة محبوكة قال إن الخليفة لم يسمعها من قبل، استهلها بقوله: صـوت صفيـر البلبـل هيج قلبـي الثَمِلِـي واستخدم فيها غريب الكلام والتراكيب، مثل: شوى شوى وشاهش على ورق سفرجلـي لكن الخليفة لم يغيّر موقفه، لأنه كان يعرف أنه بصدد بناء دولة للمستقبل. دولة ازدهرت لخمسة قرون، وحينما دكّ ركائزها المغول بدأوا من أساسات “بيت الحكمة”. هذه الصورة التاريخية، تحضر اليوم في المشهد السياسي العربي، على شاكلة تمثال مترب على قارعة الطريق في بغداد.. adelk58@hotmail.com