عندما سقط «ماجد» كجثة لا حراك لها، تجمدت عيناه وازرقت شفتاه ولم يعد قادرا على التنفس، كان القدر وكأنه يكتب فصول حكاية صغيرة من حكايات الحياة الاعتيادية، فآلاف الأطفال يفقدون حياتهم ببساطة، ودون أن يثير ذلك أحداً، إنهم في أماكن كثيرة من بلاد العرب يموتون ببساطة جريان نهر أو اعتيادية شروق شمس وغروبها، موت لم يعد يستوقف أحدا، فالحمدلله أن نجونا من هذا البلاء، شرط إنساني عال جدا يجعل المجتمع يرى في الطفل امتدادا لبقائه وليس لمجرد استكمال أرقام في تعدادات السكان، تلك قضية حاسمة بالفعل في حياة أي مجتمع.
حين أدخل ماجد إلى غرفة العناية الفائقة بعد محاولات حثيثة لإنقاذه وقفنا جميعنا على حافة الحزن والقلق وعمق الحسرة، ماجد ذلك الطفل الذي يسري دمي في عروقه وتلتمع عيناه بأجمل أيام العمر الآتية، جمدني مرآه على سرير المشفى، افقدني القدرة على الكتابة لأكثر من عشرة أيام، فانا لا أتخيل أنه صار خلال دقائق أشبه بخرقة بالية لاشيء يتحرك فيه باستثناء صدره الذي يعلو ويهبط أثناء تنفسه بصعوبة وعبر الأسلاك!
ليس أكثر قهرا للروح وأشد صعوبة على النفس من حالة طفل مغطى بالأسلاك والصمت ومعلق على حافة الأمل ومجلل بآيات الله، بينما أنت الشخص الكبير الناضج والكائن المدعي قدرتك على الفعل والحركة والأخذ والرد والثرثرة، أنت بكل تاريخك وممتلكاتك وعلاقاتك وحزنك وألمك لا تستطيع تخليص جسده من أي سلك وإن كان بدقة شعره أو تحريك أصبع صغير بحجم منقار عصفور في يده، فماجد في عالمه يعاني آلاما أكبر من قدرته على حملها أو احتمالها، ذلك الألم يبدو جليا على محياه وارتعاشات جسده حين تتدفق ارتعاشات رأسه لتجتاح ذلك الجسد الغض الصغير البالغ النعومة!! لا أدري كيف تقبلت فكرة أنه لا مكان لهذا الطفل في أحد مشافي دبي، فحين قال لي مدير مشفى الأطفال أنه لا سرير ولا مكان كدت أجن وكدت أقول كلاما لا يليق لكنني أيقنت أن هذا لن يوفر مكانا للصغير ولن يجلب له سريرا، أما أن لا يحتوي المشفى على أجهزة أشعة متطورة موجودة في أصغر المشافي التجارية هنا فتلك كانت الصدمة والحقيقة المرة، كيف يمكن لجهاز إداري يباهي كل يوم بإنجازاته عبر صفحات الجرائد أن يترك مشفى بهذه الأهمية وفي دبي المتباهية بإنجازاتها وتميزها بلا أجهزة أشعة يمكن توفيرها ببساطة، حين أخبرني الطبيب المختص بذلك حمدت الله أن ماجد في مشفى تجاري حتى وإن كان متواضعا قياسا بالمشافي المتخصصة.
احتجنا أن نلوذ بالصبر طويلا وبآيات القرآن كثيرا وبالأمل في رحمة الله، وأن نحتمل مرأى ماجد يعاني ما يعانيه حتى اللحظة التي عبر فيها أكثر الأوقات حرجا وصعوبة، كما احتجنا لاتصالات على (أعلى المستويات) ليحظى الصغير ( بنعمة) زيارة طبيب مختص من مستشفى حكومي جاء ليعاين حالته بعد حديث امتد مع مدير المشفى لأكثر من يومين، أما الذين قدموا يد المساعدة فلا أملك لهم سوى الدعاء والشكر الجزيل والكثير من الامتنان وقد كانوا عند حسن الظن بهم. ألا يكون هناك مشفى مجهز وضخم وفق أفضل المواصفات للأطفال في الإمارات خاصة وأن القائمة طويلة فيما يخص حالات الأطفال المستعصية وفي مجال الأمراض الوراثية على وجه التحديد فتلك مسألة ظلت تشغلني طويلا وأنا أتابع ماجد منذ دخوله المستشفى في دبي وحتى تم نقله في سيارة الإسعاف إلى مستشفى الشيخ خليفة في العاصمة أبوظبي لاستكمال علاجه لتبدأ حكاية أخرى لا أدري إلى أين ستنتهي، وحده الأمل في رحمة الله يوسع ضيق الدنيا علينا.


ayya-222@hotmail.com