للحنين الدور الأول والرئيسي في قدرتنا على تدريب الذاكرة للاستمرار في الوهج، وهو هدف صعب يجب العمل عليه طوال الوقت للوصول إلى غايته، تفاديا لأمور كثيرة تسببت بها الحياة العصرية السريعة التي لا تأمل فيها ولا مساحة للسكون. وإشعال الحنين أمر غير ممكن بالمعطيات الطبيعية، فلا بد من محفز خارجي لإعماله، كأن يمر أمامك مشهد يستدعي ذكريات ماضية لتشابهه مع صورة كانت حاضرة بجمال في أيام خلت. أو تأتيك رائحة تذكرك بأشخاص اقتربت منهم جدا ولكنهم رحلوا، أو تقرأ جملة تذكرك بحالة تعرفها جيدا وتدرك أكثر مما نجح كاتبها في التعبير عنه، أو ترى صديقاً عاد بعد غيبة طويلة ليذكرك بمرحلة جميلة من عمرك مرت عليها مراحل.
هو كذلك. ذلك الحنين الذي استدعى مرحلة جميلة من عمري، فأوهج الذاكرة بتفاصيل أختبأت في حناياها أيام مر عليها قرابة عقدين، تدفقت بلا هوادة. كانت عيون تلك الصديقة التي التقيتها أخيرا كافية لاستدعاء توهج افتقدته كثيرا بسبب تسارع كل الأشياء من حولي، أشياء كثيرة اكتظت فلم تدع مكانا أو متسعا فيما بينها لدرجة نسيانها بمجرد تتابعها. تدفقت ذكريات الأيام بتفاصيل المكان بألوانه ورائحته وشخوصه وشخصياتهم، ضحكهم وحتى دموعهم ودموعنا التي نتذكرها الآن بضحك. بالكلمات التي قلناها وكتبناها على الجدران بحروف أقتنعنا كثيرا أنها جميلة، ولم نعلم يوما أنها جميلة لأننا نكتبها على جدران ذاكرتنا.
أفكر دوما بعد استيقاظ حالة الحنين هذه وما تصنعه فيَّ من توهج، إلى أي مدى يمكنني صنع الحالة بنفسي بدون تركها لصدف الطريق، ومنح القدر؟ بمعنى أن احولها لحالة طوعية بدون وجوب حضور المؤثر الخارجي؟ كأن أتمكن مثلا من اصطياد ذكريات بعينها من الذاكرة الانسانية المخزونة واستدعائها عند الضرورة في أوقات الانطفاء؟ أو -على سبيل المثال- حصرها في كتابة مطولة واسترجاعها باستمرار كالأذكار؟ كيف يمكن أن يتحقق ذلك؟ وهل إن نجحت سيحدث ذلك التوهج المطلوب؟! ولأني لا أملك إجابة، يبقى المخرج الوحيد هو المحاولة المتأنية في البحث عن المحفزات الخارجية والتأمل فيها طويلا لانتشال الذكريات من الماضي، واسترجاعها من وقت لآخر.
???
للسعادة خلطات خاصة ومعقدة، ملأى بالمشاهد البسيطة والتفاصيل الصغيرة، فإن تحققت تلك الخلطات هدأت النفس وسكنت الروح وشمخت الضحكة بقناعة من ملك كل شيء. مشاهد كتلك التي تأتي من خلف الذاكرة، من ليال كان فيها سقف منزلنا يقطر ماء في شتاء ماطر قرر ألا يأتي بهدوء، وأرجل صغيرة تركض ضاحكة مسرعة لترص الأواني تجمع الماء؛ ومن مشاهد نهارات صيفية تعطل فيها التكييف فأبتللنا بعرقنا، ورغم ذلك نتلذذ بطعم الشاي بالحليب عصراً؛ ومن تفاصيل صغيرة كملابس المدرسة المرصوصة بعناية تنتظر بشغف شمس اليوم الجديد لنزهو بها وكأن الحياة ستولد معها؛ ومن استرجاع ذكريات المرات الأولى والنجاحات الأولى وحتى الانكسارات الأولى.
خلطات تجمع الدموع والضحك في أكياس كبيرة دافئة تكفي العمر كله، تجعل من كل ما أشعر به حقيقة.


als.almenhaly@admedia.ae