هي رحلة ورقية بعيدة وقديمة مع خير جليس في الزمان، كانت بدايات شاقة ومفرحة ومتعثرة لهذه الصداقة وهذه الرحلة، لكنها تبقى من الذكريات الغالية في الحياة، وتبقي مدغدغة للجوف دائماً كلما تذكرت كتاباً قديماً أو لمحت كتاباً في مكتبتك التي تتنازعها المدن والبيوت وضجر النساء من فوضاك “المرتبة”. كانت رحلة جميلة بدأت بالركض وراء الصفحات المكتوبة المغبّرة المكرمشة أو المصورة الباهتة التي تزاغيها الريح أو تطيّرها من مكان إلى مكان، إلى أن تستقر جنب ظل جدار أو تلتصق بغصن شجرة يابس أو تبقى تشاغبك لاهثاً وراءها لا تريد هي أن تتوقف، ولا تريد أنت أن تفوت متعة الاستحواذ ومسك الحروف الهائمة ولذة الاكتشاف الأولى. الكتاب الطفولي الملون والعزيز في ذلك الوقت أمسكت به أول مرة في مستشفى”كند” الأوليّ القديم، حينها كانوا يوزعونه علينا لكي نتسلى ونلعب ونخربش بالألوان ونصمت قليلاً عن البكاء أو إزعاج “المربيات” حديثات الولادة، وكان أيضاً جزءاً من هدايا “المُخَلِص” إن استمعنا للوعظ وكلمات الرب في الآحاد. بالقرب من ذاك المستشفى المبني بالجص والنورة، كانت “صنيّة أو كدّافة” سميت “صنّية كند” كانت تختلط فيها أشياء كثيرة، مجلات غير مكتملة، رسائل مهملة، صفحة من جريدة أتت بالبريد البحري، وقاست حتى وصلت، صور نساء مختلفات عن أمهاتنا وعماتنا في صفحات حروفها تتراقص من اليسار إلى اليمين، ولا نقدر أن نفك سرها. وكانت بالقرب أيضاً مدرسة النهيانية القديمة، والتي كانت تنثر كتباً قديمة بين الحين والآخر، كتباً ملّها الطلاب الكبار، وكتباً أسيء تخزينها، وكتباً تعرضت للتمزيق بسبب مشاجرات صبيانية، وكتباً كانت ضحية النجاح والانتقال إلى صف جديد. وغير بعيد كان مبنى البريد المصنوع من “البريستي” كان يسرب للشغوفين أمثالي غير الطوابع المختومة والقادمة من بلدان لا نعرفها، مجلات ممزقة، وصوراً محلوقة بالمقص، ورسائل لم يعرفوا أصحابها، وبعض الكتيبات والملاحق والكتب التي لم يعرفوا قيمة الحروف الساكنة بين دفتيها. كان من ضمن من أعانوني على تلك الرحلة الجميلة، أشياء كان يحضرها الأب معه من معسكر قوات “تي. أو. إس” في الشارقة أو من الجاهلي، ورجل عدني شبه ثائر أو محارب، استقر فترة قرب بيوتنا، كان ما يميزه نحله البائن، وصف أسنان ذهبية، كان يحمل كتباً وصحفاً وراديو وقصصاً عن مقاتلين وثوار ومستنقعات وأدغال، مكث قليلاً ثم ترك كل شيء، ولم يعد من تلك الأحلام البعيدة. المدرسة الداخلية وفرت لنا حصصاً للقراءة، وقصصاً أجنبية، وكتباً ملونة، وساعات مقتنصة من أوقات اللعب، في المقابل كان ثمة قصاص صغير يحب أن يقلد الكبار ويحكي، وأكتشف فجأة وهج تلك الحروف وما تحمل من بشارة، فغامر باتجاه تلك الورقة الطائرة التي تزاغيها الريح في رحلة كانت منذ بدايتها جميلة! ناصر الظاهري | amood8@yahoo.com