تلتوي الطرقات، وتعود لتستقيم، لكنها لا تنتهي أبدا. والمشي في الدروب صعودا ونزولا هو ما يمنح الحياة لذّتها. وهو ما يجعل من الخطوة ضرورة بعد الوقوف، ويجعل الوقوف ضرورة بعد العجلة. والناس حين يتركون لأرجلهم العنان عبطا، تقودهم الى هلاك عبثي. لكن من ينتبه لحركته ويوازن بين خطاه، يستطيع المشي على الحبال ليكون سيّد مستقبله. مدركاً أن الماضي هو الوقود الذي يحتاجه الإنسان للاستمرار في السعي نحو الحرية التي لم يتذوقها أحد. تلتوي الممرات بين الكثبان في الصحراء وتختال التلال بمنحدراتها. وقد يكون العابرون في هذه الأرض كثراً، لكن أهلها وحدهم من يعرفون سر الرمل، والقدرة على ترك الأثر ومحوه وسبره وتتبع الخطى فيه. وفي الصحراء البكر، في دروبها التي تصعد وتهبط، تمد الريح يدها لتمسح ظهور التلال وتشكلها في لوحة صفراء برّاقة. ومن شدّة السطوع يرى البعيدون السراب لكنهم لا يستطيعون الاقتراب منه. وفي الحياة بشر يدركون شرط العبور بين الممرات الصعبة، لكن أكثرهم يخافون الجفاف، فتمتنع أرجلهم من الخوض في المجهول أو البعيد، ويفضل معظمهم البقاء في منطقة الحذر. لكن الإنسان الذي تشدّه الحرية من ثيابه، وينبض قلبه بحب الحياة، لا تكبّله الصعوبة حتى لو لقي حتفه، ولا تمنعه قمة الجبل البعيدة من محاولة الصعود وتكرارها ألف مرة الى أن يصل في النهاية منتصراً على الحياة نفسها. تلتوي الأفعى على الأغصان العالية، وقد تغير جلدها مرات ومرات. لكن ذلك كله لم يمنع الطيور يوما من بناء أعشاشها. وفي الحياة هناك كثيرون يلتصقون بمن هم أغصان وأشجار عالية في مجتمعاتهم، ويحاولون الانقضاض على الأعشاش الصغيرة في الظلام، لكن إشراقة الشمس كل صباح، وتغريدة البلبل الصدّاح تخيفهم. فيكتمون سمّهم في جوفهم الى أن يختنقوا. تلتوي الألسن حين يدب الخوف في الكلمات، وحين تكون الهجنة اشتقاقا مرّاً لأصل الكلام. يأتي الغرباء أولاً، وينشدون نشيدهم في آذان الصغار، فتختلط مياه المعنى نفسه، وتتفكك حروفه في اتجاهات شتّى. ومن هجنة الكلام تلتوي الفكرة، ويسهل تحويرها، ولا يعود يميّز أحد رأس الأفعى من ذيلها. يتلوى الراقص في حلبة العذاب. يميل برأسه جهة اليمين لكي يوازن جسده في جهة الشمال. والمصفقون له يغويهم هذا التصالح بين الضدين في الجسد الواحد، لكنهم لا يدركون أن النقطة التي يقف عليها الراقص الفذ، تلك النقطة التي يرتكز عليها ثقل الأفكار والكتل وأشياء الحياة، إنما هي نقطة لا ترى في الأصل، ولكن من يبتكرها ثم يقف فوقها، يمتلك بعدها قدرة حمل الأرض كلها بيد واحدة. تتلوى دروب المتاهة وتختلط وتتداخل، لكنها لا تخدع سوى ضعفاء الذاكرة، الذين يكون النسيان دليلهم نحو المستقبل. هؤلاء، حين يمشون بعيون مغمضة خائفين من المرايا، يصلون أسرع من الجميع الى باب الجدار المقفل، ويظلون العمر كله يطرقونه، وما من جدار يسمع، وما من خشب يفتح. تتلوى براعم الورد في مزهريات الأمل لكن أشواكها تظل مستقيمة مثل السهم لتجرح، ومحظوظ من تدمى يداه ممدودة لمن يحب عادل خزام | akhozam@yahoo.com