“أنا شايف ….. “. يتكلم عمار الشريعي كما لا يرطن المبصرون. الواحد منهم يقول: أنا أعتقد. أنا أجزم. في رأيي. هو يقول: “أنا شايف”، لأنه يرى وهم لا يفعلون. كان ذلك منذ سنوات طويلة. أمام مبنى ماسبيرو في ساعة الذروة. راح صديقي سعيد العائد في زيارة قصيرة من مقامه الأوروبي، يناسل حكاياته الواقعية والسوريالية، بصوت يجلجل كأن حباله مُدّت لكي يقود مليونية، قبل زمن المليونيات. من الخلف هتف صوت: “مين سعيد؟ يا ابن الـ...”. التفتنا. صديقان يلتقيان بعد طول انقطاع. الكفيف بينهما رأى المبصر. تشاتما. تعانقا. تواددا، وتواعدا على مليون لقاء، واتفقا على مليون مشروع. في اللحظة أدركت أن عمار الشريعي، لديه القدرة على الالتزام، وإن سعيدا سيأخذه النسيان مع الحكاية التالية. عرفت عمار الشريعي، كما عرفه كل محبوه. من خلال المذياع، في الليل الأرق، بعد منتصفه بقليل. هنا القاهرة. “غواص في بحر النغم”. يأتي الشريعي لكي يجلس قرب سريرك، ويخاطبك وحدك: “شوف يا ابني.. الربع تون هو ميزة الموسيقى العربية. نستخرجها من درجات السلم الموسيقي السبع، في صعودها (الصولفيج)، وفي هبوطها. المسافة بين الدرجة والثانية، هي بعد كامل، أي “تون”. الغربيون اكتشفوا نصفها. نحن العرب والشرقيين اكتشفنا ربعها، بسبب طاقة الشجن في الموسيقى العربية”. تفهم الدرس. ثم تعرف بعد سنوات إن الشريعي، تعاقد مع شركة يابانية لكي يستخرج أرباع التون من آلات الموسيقى الغربية التي تصنعها. في الليلة التالية يأتيك: بص السنباطي عمل إيه في “يا ظالمني”. يا أخي لحّن بالصوت وليس بالآلة الموسيقية. جعل صوت أم كلثوم وكلمات رامي يقودان الموسيقى، يطغيان عليها. هو اكتفى بالمقدمات. الدَخلة والقَفلة. اسمع وهي تقول: “بدي أشكيلك من ناااار حبي”. كلمة نار هنا تتموج، تلتهب. اسمع. ثم “وعزة نفسي مانعاني” صرخة مدوية. وفي ليلة تالية: سمعت كمنجات بليغ في المقطع الثالث من “فات الميعاد”. تئن. تتوجع. يترجع صداها حزينا. يرددها ثلاثا، ليس أقل فتصبح ضامرة، ولا أكثر فتصبح مناحة. هل تعرف لماذا؟ ستقول لك أم كلثوم بكلمات مرسي جميل عزيز: “الليل.. ودقة الساعات تصحي الليل”. بليغ يتشاجن مع الليل هنا. في الصباح تختبر ما تعلمته من الشريعي في الليلة السابقة. تعرف لماذا تحب ما تحبه، وكيف تحبه. تستقطر متعة الاستماع حتى آخر خفقة. الأهمية التعليمية لـ”طه حسين الموسيقى العربية”، كما وصفه الموسيقار حلمي بكر، توازي أهميته الإبداعية. هو أطل في زمن الانفتاح الاستهلاكي والهبوط الفني. أثبت مع مجموعة “الأصدقاء” وغيرهم إن الكلمة العليا لن تكون لـ”السح الدح مبو” و”هِز يا وِز”. أعطى الدراما التلفزيونية الناهضة بعدا رابعا. موسيقاه التصويرية التي تتبع فيها الحركة، وجسّد المواقف، ورسم تعبيرات الوجوه سابقت السرد وسبقته أحيانا. لو استخلصت الموسيقى من “رأفت الهجان” و”زيزينيا” و”قول يا بحر”، و”عصفور النار” و150 مسلسلا آخر، و50 فيلما، و10 مسرحيات.. فإنك ستحصل على مقطوعات موسيقية بحتة تستحق أن تعيش بلا العمل الذي ارتبطت به. هي سيمفونيات قصيرة، لكنها مكتملة. عمار الشريعي كان “يشوف” قبل غيره. قال إن أجمل ساعة ونصف في سنواته الأخيرة، هي تلك التي قضاها مع الشباب في ميدان التحرير. كان المرض قد أنهكه وقتها، لكنه بدا متفائلا إلى أقصى الحدود. بعد ذلك ادلهمت الأحداث. قال إنه لم يعد يعرف الخصم من الحليف، وفي لحظة الذروة رحل... عمار الشريعي الرائي.. ليس كمن رأى.. عادل علي adelk58@hotmail.com