عندما تتأمل موضوعات وأحداث وشخصيات نجيب محفوظ، سوف تلاحظ اتساع عدسة الكاميرا الروائية التي تصور شخصيات العالم التاريخي أو الواقعي. والبداية هي الروايات التاريخية، سوف تجد الفرعون الفاسد الذي يسلم أمره إلى غانية، في مقابل الفرعون العادل الذي بنى الهرم الأكبر. أعني خوفو الذي لم يستطع مقاومة سخرية الأقدار في الرواية التي تحمل هذا الاسم. وفيها تتعدد الشخصيات وتتنوع، ومن ثم تتعدد المواقف، وتتنوع الاتجاهات التي تتصارع أو تتوارى. وانتقل إلى قصص الواقعية النقدية، فتجدها تدور حول مصائر شخصيات متعددة؛ منهم القروي بالغ الفقر الذي تنتهي به الانتهازية إلى أن يكون ديوثا، مؤمنا بأن قرنين على الرأس أفضل من الموت جوعا، ومن ثم يكون شعاره الدائم “طز” في كل شيء. ابتداء من القيم الدينية، وانتهاء بالقيم الاجتماعية والمبادئ الفكرية والسياسية على السواء. وعلى النقيض من شخصية محجوب عبد الدايم الانتهازي الذي ستتكرر صوره بأشكال وأسماء متعددة في الروايات الواقعية والرمزية على السواء، هناك زميل محجوب المتدين الذي يؤمن بأن الالتزام الديني يحمي من كل شر. ولكن هذا الزميل يقابله نقيض آخر يساري، هو علي طه الذي لا يكف عن الكفاح السري ضد الاحتلال والملكية الفاسدة في الثلاثينيات التي تدور فيها أحداث الرواية. ولذلك أطلق صلاح أبو سيف على الفيلم الذي صنعه من الرواية “القاهرة 30”. وإذا نظرنا إلى الشخصيات من الناحية الفكرية، فسوف نجدها تتعدد وتتنوع ما بين أقصى اليمين واليسار والوسط. سنجد، مثلا، حسنين في رواية “بداية ونهاية” يفرح عندما يقرأ كتاباً يؤكد له أنه لا تناقض بين الاشتراكية التي يتطلع إلى شيوعها في مجتمع تتحقق فيه العدالة الاجتماعية والإسلام الذي نشأ عليه ولا يمكن أن يتخلى عنه. ونجد الثنائية الضدية تظهر ما بين المثقف التقليدي المحافظ والمثقف المحدث الساعي وراء تغيير كل الأشياء. وذلك من خلال شخصية أحمد عاكف الذي يدل اسمها الثاني على العكوف على ما هو موروث وعدم الخروج عليه. أما النقيض، فهو أحمد عارف المفتوح على الجديد، المنحاز دائما إلى العلم الحديث. وسوف تتكرر هذه الثنائية بالمعنى السياسي الحدي في الجزء الأخير من الثلاثية، فتجد أحمد شوكت الذي يميل إلى الماركسية وينحاز إلى الطبقة العاملة، وعبد المنعم شوكت الذي ينضم إلى جماعة الإخوان المسلمين، ويمارس دور النقيض لأخيه فكرا وسياسة وتصورا لمستقبل المجتمع. والحق أن الثلاثية بأجزائها الثلاثة، هي بانوراما ضخمة متعددة التيارات متنوعة الشخصيات، ففيها الثائر الرومانسي فهمي الذي قتل في أحداث ثورة 1919، وهناك ياسين الذي لا هم له سوى إشباع الغريزة، وأخيرا كمال الأخ الأصغر: الليبرالي المعذب بين المعتقدات والأفكار، منذ أن كتب عن سقوط معتقدات وصعود مجتمعات مخالفة، ويظل على تذبذبه الهاملتي إلى نهاية الرواية، باقيا على حالة اللامنتمي إلى نهاية الثلاثية، فأصبح نقيضا لابني شقيقته الذي انتمى أولهما إلى الشيوعية، وثانيهما إلى الإخوان المسلمين.