من بين اكثر أدلة (تجريم) الحداثة وتسفيه خطابها شيوعاً القول بأن الحداثيين لم يضيفوا في الشعر ما يصل إلى قامة رواده أو سابقيهم؛ فلا نكاد نعرف قمما أو ذرى يشار لها أو تشير إلينا كما اعتدنا في غابر عصور الأدب. والمسألة كما تبدو لي في مظهرها النقدي والاجتماعي متصلة بتفضيل الأوائل، ولأن الزمن يطوي منجزهم؛ يعجز المتأخرون عن مباراته أو مجاراته. وهي نظرة تقوم عليها دعاوى السلفيين الذين يوقفون العلم والعدل والصواب على السلف؛ فلا يظل للخَلَف إلا ما يتاح للملحق والمقلد من إبراز براعته في تكرار السالف وإعادته للحياة، لا نموذجا من نماذجها، بل بكونه النموذج الأوحد (بالتعريف والتحديد). وهذا الخطاب يعطّل الابتكار ويبثّ الشلل في الجسد الثقافي كله، لما يحتويه من معنى أخلاقي يتم بموجبه تكفير المجدد أو المحدث لما بينه وبين السلف من اختلاف يفرضه الواقع، ولا ذنب فيه للمجدد الذي يعيش بنواميس عصره ومقتضياته وتبدلات أدواته وآليات تفكيره. ذلك التحدي واجهَ شعراء الحداثة عبر تاريخ الشعرية العربية؛ فتمرد المجددون ورفضوا ذلك التمييز بين المتقدمين والمتأخرين، ورأوا أن الإبداع لا يقتصر على زمن أو يتجمد عند تخومه كما أراد النقاد التقليديون. وحين قال المعري بيته الشهير: وإني وإن كنتُ الأخيرَ زمانه لآتٍ بما لم تستطعه الاوائلُ لم يكن ينسب الفخر لنفسه أو يباهي بعبقريته كما تذهب التفسيرات المدرسية، لكنه يعبّر عن قيمة منجز الجماعة من معاصريه، وأنهم لقادرون على الإتيان بما لم يتح للأوائل المتقدمين زمنياً أن يصلوا إليه. وبذلك يُثبت المعري للمتأخر حقا يصادره مقلدو السلف، ويؤكده مبدأ الاستطاعة المحتكم للمتاح من الأدوات وتبدل الاذواق وطُرز الحياة والمؤثرات الثقافية. وهي أمور لا يراها الصنميون من ناسبي المجد والإعجاز للماضي متحسرين على أنه مضى وانقضى رغم أن ذلك تم بحكم الطبيعة ومنطق الأشياء. لقد كان سِجال المعري إذن بصدد إثبات مقدرة الأواخر، وهو ما غيبته نظرية تقديس القدامة وفضلها. وهكذا يتناسل جينيا في الفكر السلفي إقصاء المتأخر دوما. ويحفظ تاريخ النقد الأدبي العربي نصوصا نقدية وأخبارا تعزز تميز الأوائل وتهميش الأواخر. فقد أمر ابن الأعرابي تلميذا له بان يمزق ما قد دوّن من شعر أعجبه، حين علم أنه لأبي تمام، وقد كان ابن الأعرابي نفسه يصف أشعار المحدثين بأنها (مثل الريحان يُشم يوما ويذوي فيُرمى) أما (أشعار القدماء فمثل المسك والعنبر كلما حرّكْته ازداد طيبا!). ومن الوقائع ما ذكره المعري من نسبة بعض شعر المحدثين إلى القدامى غضاً من قيمتهم (ورغبة في تنقص قدر الشاعر المحدث) ولذا حاول ابن قتيبة أن يخالف ذلك فلم ينظر إلى المتقدم (بعين الجلالة لتقدمه) ولا (بعين الاحتقار إلى المتأخر لتأخره) وينتقد من استجاد (الشعر السخيف لتقدم قائله) واسترذل (الرصين لأنه قيل في زمانه!). ولعل دورة حياة النقد اليوم تعود بنا لتلك المعادلة الظالمة بين القديم ونقيضه.