يا نفسي اهدئي ويا روحي تريثي.. بي توق عارم لأن تمر أصابعي المفعمة بالحب على الأوتار، لأغني الأعماق وأسلس الحياة! في مرسمها الجميل في البستكية التراثية المعمار، دعت فاطمة لوتاه الفنانة التشكيلية، الفائقة الرقة واللطف، فرقة موسيقية هندية، ودعت صديقاتها وبعض الأصدقاء للحضور الى المرسم. وأثناء الإنصات الى العزف تساءلت بيني وبين نفسي، لماذا اختارت فاطمة الموسيقى وليس الغناء؟ قلت لنفسي، بعد أن راقبت الحضور واستغراقهم العميق في الانصات وما لاح على وجوههم من صفاء ومودة: لقد أرادت فاطمة بحسها المرهف ومحبتها التي ترفّ ُكفراشة على الأصدقاء قريبهم وبعيدهم، أن تمحو ولو للحظات اثيرية ما علق بالنفوس من ضغائن وافتراقات، لتوحدهم في حلم واحد هو التوق للصفاء والمحبة. وليس كالموسيقى ما يوحد الإنسان ويرتقي به! ??? كانت أصابع يد العازف اليمني تمر على أوتار “السيتار” بسرعة مذهلة واستغراق صوفي وأصابع يده اليسار تحاور إيقاع الوتر في لغة ايقاعية تبعث بشجنها الى نفوس المستمعين وتنقلهم الى حالات خفية وغامضة تتفاوت بين اليقظة والاستغراق في تأمل خفي واسترخاء يرحل بهم الى ذكريات حنين وأماني تستريح في خفايا النفس. وبعد فاصل من العزف يشير الى زميله عازف الناي ليكملا التحاور في نقلات مفعمة بالفتنة والغموض بين السيتار والناي وضارب الطبلة. ليس ثمة غناء بالكلمات انها موسيقى خالصة أبدعها الإنسان لتوحد العالم والبشر حول حلم واحد هو السمو بالروح البشري الى مراتب الانسانية العليا التي انحدرت الأحداث المريرة وفرقتها ضلالة المعتقدات. كان المستمعون مستغرقين في هذا التوحد على اختلاف جنسياتهم ومنابتهم وتضاريس أقطارهم. ??? ثمة فرق بين أن ننصت الى الموسيقى خالصة بذاتها وبين أن ننصت الى الكلام مصحوباً بالموسيقى. في الحالة الاولى، فإن ثقلاً يراكمه المعيش اليومي وغربة الانسان ووحدته في عالم يستشرس كل يوم ويحبك حوله الشباك والحصار، ينزاح ببطء ويترك النفس صافية هادئة يغمرها السلام والطمأنينة. وفي الحالة الثانية حيث ينصرف الذهن لمعاني الكلمات وما تستثيره في النفس من الذكريات والشجن والشوق، فإن تأثير الموسيقى (اللحن) يكون ثانوياً تالياً لا يسهم إلا في حفظ الكلام وترديده. الموسيقى الخالصة تخاطب الروح مباشرة دون عائق أو وسيط. أما الأغنية (الكلام منغما باللحن) فإنه يسيد الذائقة السمعية في اختلافاتها بين الشعوب. في حين أن الموسيقى تلغي حواجز اللغات والذوائق. هذا التماهي بين الإنسان والنغم، بين الحسي والروحي، بين التوق الخفي للتسامي على الواقعي، بين القدرة المحدودة للإنسان والشغف بالمطلق، بين ذلك الغامض اللامرئي وتجسيده الطوطمي الذي يبدعه الانسان بكلتا يديه وشوق روحه وجموح خياله. التماهي بالطبيعة والارتقاء فوق قدرتها. جعل من الموسيقى لا وسيلة من وسائل الاستمرار في الوجود، لا بدعة من خلقه ولعبة من ابتكاره، بل تجسدا لكليته وخفائه وتطهره ونقاء كينونته الانسانية. ??? قبل أن يبدأ العازف بالضرب على القيثارة وضع فمه على فوهة صندوقها وهمس: الان يا سيد الكلمة جاء دورك لتوحد العالم ! hamdahkhamis@yahoo.com