تصادف في الحياة شخصيات تجبرك أن تتوقف عندها، وهذا الحال مع “تيسا رسول” التي ما إن رأيتها في مزرعتها في جزيرة “ماهي” السيشيلية حتى أيقنت أنها مشروع لفيلم تسجيلي، يظهر كفاحها في الحياة، وحلمها أن ترى كل شيء أخضر، وتتبنى بيئة نظيفة، وترجع كل الأمور إلى طبيعتها البدائية حينما أيقن الإنسان مرة أنه يمكن أن يعيش في مسكن يختصر له الجنة، خالقاً ذلك التناغم بين الأرض والمطر، وحركة الحرث ومنجل الحصاد، مستأنساً حيوانات طالما شاركته في العيش، وإعطاء الأشياء مسمياتها، امرأة من سيشيل حاربت في أرض بور، وأحراش من شجر وحشي، صبرت حتى قلمت كل الشوك والشراسة، لا يساعدها إلا شاب فلاح يبدو أنه اقتنع بما تفعل أو لأنه يحب العمل، ويحب أن يرى معنى للحدائق، مهدت الأرض، وزرعتها بالفواكه والخضراوات والتوابل وأشجار الظل، عبدت الطريق الصاعد لها كجبل من صخر، وأعطت لذلك الدغل روحاً من أنسة وحياة، قاومت أن يبنى في تلك البقعة الخضراء أي إسمنت أو يدق فيها حديد، وعاندت شخوصاً يحركهم الطمع والمال وتلك المنفعة التي تحصدها جيوبهم حتى أوصلتها إلى الجهات العليا الذين وقفوا معها في مشروعها، وأجروا لها المكان لمدة ستين عاماً، اليوم ذاك المكان أصبح مختلفاً بعدما بنت لها بيتاً خشبياً تسكن فيه، وتخطط أن تعمل مطعماً للسياح يعمل من منتجات الأرض فقط، لذا تجدها تقود سيارتها الـ”بيك اب” وتقلع وتحفر، وتسوق الأشياء على ظهرها حينما لم يكن هناك درب موصل لأرضها، كان ذلك جانباً من كفاح “تيسا رسول” اليومي، وهو جانب واحد من الفيلم التسجيلي، الجانب الآخر هو عمق هذه الشخصية، وكيف نبتت في هذا المكان القصي بتلك القامة الفارعة، والعيون الزرقاء، وذلك الشقار الذي لوحته الشمس وتعب الأرض حتى غدا وجهها وشعرها كحقل حنطة لم يدرس بعد، الجانب البعيد والعميق في شخصيتها أنها مزيج عجيب لتلاقح الأعراق والأنساب والشعوب واختلاط الدماء من الجهات الأربع، فهي تتحدث الإنجليزية والفرنسية ولغة خليطا لم أفهمها وهي تخاطب الآخرين من سيشيل، فأبوها من أصل إيراني، وجدتها لأمها فرنسية، وجدها لأبيها جاء من كانتون الصينية، وأمها من سيشيل، وثمة عرق تركي فيها، وهولندي وربما إنجليزي، لقد أضعت الحسبة حينما تشتت عقلي في كم الدماء التي امتزجت من الزوايا الأربع من العالم لتشكل هذه الإنسانة الرائعة التي تحب أن تصحو قبل أن يتحول قرص الشمس ذهبياً على حقلها، فرحة بصياح الديكة، ونباح كلابها، وزقزقة عصافير تجتذبها أشجارها ليبدأ بكورها فجراً تداعب الأغصان، وتنزع يابس عودها، تحنو على كل شجرة تبعد الأذى عنها، تلتقط ثمارها الناضجة.. هكذا هي الحياة حينما تكون حلماً أخضر، وهكذا هي المرأة حين تقرر أن تكون جزءاً من ماء الحياة!


amood8@yahoo.com