أبو سالم.. جئت بصمت وذهبت بصمت، وزوّادتُك حصاة الصبر، وحبرك عرق لوّنتَ به دروب الشقاء، وذروة السؤال، عن أحوال وأهوال وأقوال، داهَمتْ القلبَ وخبّأت أشياءك الصغيرة في صندوق الزمان، الغريب العجيب، الرهيب المهيب، وحدك، أيقنت أن الأسئلة مخبؤها جفون ذابلة، وعيون ابيضت فيها المُقل من أثر البلل، وملح الماء الذي كنت تحصده جهداً وزهداً، ومداً ومدداً، كنت وحدك تسرد قصة البقاء على قيد الاكتواء، وتقول لرفيقة عمر، إنَّكَ من دهرٍ ترزح تحت طائلة الأسئلة الغامضة، ويطير بك قارب الصيد الصغير على ظهر موجة ومهجة، وتغرس الخيط الرفيع في الماء الصقيع، والطائر في عنقك، يد بيضاء من غير سوء، كما هو القلب وكما هو الدرب.
كنت وحدك، تساور البحر وتغادره، وتهز جذع الموجة ليأتيك الخصب جنياً، يأتيك الحظ وفيّاً، يأتيك الحدب سخياً، وأنت.. أنت، في عراء الزمن، تحطب وتخصب، وترطب، وتشذب، وتهذب، وتطرب وترفع النشيد بحرياً والريح شمالية، تلفح الصدر والنحر، والفجر، وقمرك الناهض في الروح، لايغيب ولا يستغيب، ولا يريب، ولا ينيب عنه إلاك، حين تضع القدمين الحافيتين عند شفة البرودة اللاسعة، تنفضك كأنك السمكة التي اصطدتها في التو، كأنك القارب المتهدج ما بين الموجة والموجة، وما بين النحنحة والكحة، وحدك في البيت القديم، قدم حنينك إلى الأرجيلة، في الزاوية القصية، تقرفص ساقين مترهلتين معروقتين، مجهدتين، وتلثم أول رشفة، ثم تنفخ، ثم تنسخ الخطوط الحلزونية على سبورة الفراغ اللامتناهي، وترسخ حلمك الأزلي، ما بين النجمة والنجمة، وما تحت الغيمة، وفوق العتمة، عند حد النعمة المجللة في غضون الجبين اللجين، وتجاعيد الوجنة، المحسنة بسحنة البحر الرمادي.
والآن وبعد كبوة الفارس، يتطاول الهاجس، وتعلو في النفس نبرة النابس، وتتذكر رفيقة قديمة قِدَم الروح، تتذكر سحابة الأرجيلة، ورائحة معصم الرأس، ملفوفة على ذوائب وشوائب، تتذكر الابتسامة الصامتة، وهمهمة المساء حين يشدو طائر الألفة الشجية، تتذكر كيف يمكن للنورس أن يغادر الوكر بدون سؤال، وبدون موالٍ يغسل القلب، ويدفئ غرفة الروح.
الآن يا سيدي، وأنت في الغياب، تبدو رسائلك محملة بالشوق والتوق، مرملة بحنين أشد مضاضة من لوعة الموت نفسه، وأقسى من لواعج الفراق.. الآن سيدي، وأنت في السفر الطويل، لا مركب يحملك، ولا طائر يدل على مجيئك، الآن أنت في الذهاب بلا إياب، وإن لمعت الدمعة الساخنة في المحجرين، فهي لا تضيء الطريق إليك، لأنك في السرمد، والمكان الأبدي وما بين اللحدِ واللحد، تغيب الأسئلة ولا يشعل الذاكرة غير حرقة مسترسلة.
الآن يا سيدي.. تفترش الذاكرة سجادة منقوشة، بأحلام وأيام، وأحاديث دارت رحاها في الخلوة المبجلة، وأشواق كانت تزهر على أغصان العمر، وتورق بخضرة مدللة.. الآن يا سيدي لم يبق غير الرائحة، ولون كالطيف، يجري في الدماء النازحة.. وحدها الرفيقة ستعد أيام الغياب بانسكاب، وانتحاب، وإطناب، وإسهاب، والأسباب.. أنك لن تعود لتعطر الملاءة، بنث السحاب.


marafea@emi.ae