وجه أكتشفه دائما كلما عاودت قراءة كتابات نجيب محفوظ، وهو أن رواياته كانت بانوراما للحياة المصرية أفقياً ورأسياً، أو تاريخياً وموضوعيا. لقد بدأ نجيب محفوظ رواياته بالروايات التاريخية التي أصدر منها ثلاثا عن مصر الفرعونية، وقد بدا فيها كأنه يبحث عن الجذور الأولى لتكون الهوية المصرية. ويبدو أنه قد اكتفى نسبيا من الكتابة التاريخية. واستخدم كلمة “نسبيا” متعمداً؛ لأنه أخبرنا بأنه كان لديه مشروعات لروايات تاريخية عن مصر الفرعونية، ولكنه اضطر أن يتركها وينتقل إلى الرواية الواقعية التي تنشغل بنقد الواقع السياسي والاجتماعي، وقد حرص في هذه المرحلة التي تبدأ من رواية “فضيحة في القاهرة” إلى الجزء الأخير من الثلاثية على تصوير الحياة المصرية منذ إرهاصات ثورة 1919 إلى إرهاصات ثورة يوليو 1952. وبعد قيام ثورة يوليو توقف عن الكتابة ليرصد ملامح الواقع الجديد الذي تشكل بعد الثورة. وظل سنوات يتأمل تحولات المجتمعات البشرية، وذلك من خلال التركيز على العوامل الاجتماعية التي صاحبت تعاقب الديانات إلى انتهاء زمن الرسالات السماوية، وبداية الصراع الإنساني البحت. وبعد أن هدأت ضجة “أولاد حارتنا”، كانت ملامح المجتمع المصري بعد الثورة بكل تناقضاته قد بدأت في الظهور. ولذلك عاد محفوظ إلى رواياته الواقعية النقدية، لكن مع إضفاء عنصر رمزي إلى تركيبة السرد والأحداث والشخصية، وذلك للإشارة إلى العام من خلال الخاص، وبواسطة تقنية كتابية تؤدي إلى تعدد الدلالة بفضل العنصر الرمزي. وقد وازت هذه المرحلة الستينيات وتعاقب السبعينيات والثمانينيات إلى التسعينيات إلى أن حدثت محاولة اغتيال هذا الكاتب العظيم مساء 14 أكتوبر 1994 بسكين صدئة غرسها في رقبته أحد المتطرفين من الذين ضللهم دعاة أساؤوا إلى الدين الإسلامي أبلغ إساءة، واقترن تطرفهم بتكفير المخالفين لهم. وكان نجيب محفوظ يتتبع ذلك بواسطة التصوير الروائي والقصصي منذ أصدر روايته “المرايا” التي رصد فيها إحدى الشخصيات المتطرفة دينيا التي جعلها تصويرا رمزيا لسيد قطب الداعية الإسلامي المتطرف الذي أعدم في 29 أغسطس 1966 في العهد الناصري. ولم ينته التطرف الديني باسم الإسلام الذي هو دين السماحة، البريء من العنف، بإعدام سيد قطب الذي لا أزال أدينه، فأنا ضد إعدام المفكرين مهما انطوت دعواتهم على تطرف ديني. ولقد صدرت “المرايا” في السبعينيات، وظل نجيب محفوظ يرصد بعدها تصاعد التطرف الديني في رواياته ومجموعاته القصصية المتلاحقة التي تابعت عدساتها تصاعد التطرف الديني منذ السبعينيات إلى الثمانينيات، حتى محاولة اغتياله. وعلى الرغم من أن هذه المحاولة الآثمة قد أثرت على أعصاب يده، فإنه استطاع أن يكتب ـ بعد أن منّ الله عليه بالشفاء النسبي ـ قصصا رمزية بعنوان “أحلام فترة النقاهة”. ولم يتوقف عن الكتابة إلى أن توفي عام 2006، بعد أن جاوز التسعين من عمره بسنوات خمس، لكنه خلال هذا العمر المديد لم يتوقف عن رصد الواقع المصري في تاريخه الطويل الذي بدأ منذ الفراعنة إلى مطالع القرن الحادي والعشرين.