في تلك الصبيحة الماطرة ارتقيت الضفة اليسرى لنهر حدره سيرا على الأقدام. كأن المطر الهاطل طلاً (أخفُّ المطر وأضعفه)، ثم عبابا (المطر الكثير)، ثم وَدْقا (المطر المستمر)، كان ضروريا لكي يكتمل المشهد. صعود التلّة يزداد صعوبة كلما ازداد انحدار الطريق الملتفة بين أشجار تمنحك انطباعا خاطئا بأنها قد تحميك من السيل النازل من السماء. والظاهر إن سائقي السيارات الصاعدة والهابطة، لم يقتنعوا بأنك نلت نصيبك من البلل الجارف، فتولوا منحك ما تيسر من جنبات الطريق الممتلئة. كيف صعد من سبقنا، في غبشة التاريخ الأولى إلى تلك التلّة؟ تحت أية ظروف أحكموا مسيرتهم؟ هل أعاقهم مطر أو بشر أو حجر؟ تلك أسئلة تقرع الرأس، قبل أن تقرع شباك بائعة تذاكر الدخول عند مدخل قصر الحمراء. لحظتها يغيب الفكر ويحضر الشعر. ينتصب في المشهد نزار قباني، في لحظة دهشته الأولى، المكتنزة بالسحر الحلال وما يشبهه. تتردد في الخاطر لوقت طويل قصيدته عن تجليات ذلك السحر: في مدخل الحمراء كان لقاؤنا ما أطـيب اللقـيا بلا ميعاد عينان سوداوان في جحريهما تتوالد الأبعاد مـن أبعاد هل أنت إسبانـية؟ ساءلتها قالت: وفي غرناطة ميلادي ومع مواصلة نزار لقصيدته التي تتألق فيها زركشات قصر الحمراء، وألوان “جنّة العرّيف”، وتتداعى إليها أصداء بني أمية ومشاهد دمشقية، تتسلل ملامح شعراء سبقوه جعلوا من قصيدة قصر الحمراء معادلا موضوعيا لحضوره التاريخي في الروح العربية. منهم ابن الجياب الغرناطي (673 ـ 749 هـ)، وابن الخطيب (713 ـ 776 هـ)، وابن زمرك (733 ـ 793 هـ)، عاشق السلطة الأبدي حامل لقب (بلبل الحمراء الغريد)، وهو الذي ملأت أشعاره جدران الفناءات والممرات، خصوصا تلك الموصلة إلى قاعة السفراء التي وقع فيها أبو عبدالله الصغير صك الاستسلام. هؤلاء الشعراء وغيرهم من الذين صاغوا الحلم الأندلسي تحت السقوف المزدانة بعبارة (لا غالب إلا الله)، بثوا نفحاتهم المشتاقة إلى الحق والعدل والجمال، وتعبدوا في محاريب السلطة التي راودت أحلامهم وطموحاتهم، ومن ثم نفثوا سموم خلافاتهم وأطماعهم في دواوين الحكام ومجالس الموظفين الخلفية. تتداعى اختلاجات الحلم الأندلسي هذا مع كتاب جديد أصدرته إدارة قصر الحمراء بعنوان “الذاكرة الشعرية لقصر الحمراء”، وفيه أكثر من مئة قصيدة إسبانية تغنت بالقصر العربي الأندلسي، قديما وحديثا، لشعراء مثل لوبيث دي ديغا (1562 ـ 1635)، وغارثيالاسو (1501 ـ 1536)، وسان خوان دي لا كروث (1542 ـ 1591)، وخوسيه ثوريا (1817 ـ 1893)، وخوان باليرا (1824 ـ 1905)، وروبين داريو، وخوان رامون خيمينيث، وفدريكو غارثيا لوركا، وخورخه لويس بورخيس... هم يتغنون الآن بما بكيناه نحن منذ ألف عام، فانفتحت منذ تلك اللحظة مزاريب الدموع على ملك ضائع، أو يضيع، أو سيضيع.. كأن مطر تلك الصبيحة، كان مجرد شطر في قصيدة الدموع العربية، التي أكملها نزار قباني: قالت: هنا “الحمراء” زهو جدودنا/فأقـرأ على جدرانها أمجادي أمجادها؟ ومسحت جرحاً نازفاً ومسحت جرحاً ثانياً بفـؤادي يا ليت وارثتي الجميلة أدركت أن الذين عـنتهم أجدادي عانقت فيها عندما ودعتها رجلاً يسمى “طـارق بن زياد” عادل علي adelk58@hotmail.com