الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«واحد من اثنان» لوحة للفنانة البريطانية جيميما باتيرسون

«واحد من اثنان» لوحة للفنانة البريطانية جيميما باتيرسون
2 فبراير 2012
ماجدة عبدالله الهاشمي * ولجت إلى السينما القريبة من البلدة القديمة، المرقعة بالجدارن المهملة والكراسي الجلدية الممزقة.. التي تصدر صريراً أكثر مما تريح. كنت متلهفاً لمعرفة ما جديد نجمي الأميركي المفضل والذي يأسرني كمثقف هاوٍ أكثر من كوني ناقد سينمائي في جريدة محلية تعج بأسماء الشهداء والمقاومين وعناوين الانتفاضات واحدة تلو الأخرى، فعمودي هو عمود اللامبالاة كما تسميه زوجتي. أذكر أن نبأ خطبتي كان مثار سخرية بين معارفي أكثر مما هو مثار غبطة وفرح، فزوجتي مناضلة عنيدة ومن طراز رفيع وابنة مقاوم كبير وشهيد قديم، فيما أنا النقيض الحاد والمتشبث بفنون الحياة ورفاهيتها، فكنا وما زلنا نقيضي الحياة والموت، وسر علاقتنا وقداستها تأتي من هذا النقيض. بحثي عن الكرسي رقم 48 ما زال متواصلاً في الصفوف الوسطى حيث مكاني المفضل غير مبال بالوجوه التي تئن من حمل تلك الأنوف المعقوفة والقامة القصيرة والتي منعها المكر من التمدد عامودياً في الهواء وهم يتابعون هذا الدخيل ذي البشرة القمحية والذي يحرج وجودهم! إلى متى التعايش ونحن لا نتلامس؟ إلى متى نحن نتنافر ولا نتجاذب؟ أعيد على نفسي قراءة رقم الكرسي حتى لا أتشتت، تتسمر عينين لشخص ما على بعد صفين فيّ، وترسل بأشعة نارية أحسها وأنا أجلس على الكرسي الذي وجدته أخيراً، أعيد النظر إلى تلك العينين التي تترقبني. تتسمر عيوننا معاً لدقيقة، ذاكرتي تنكسر ليظهر وجهه الطويل الحاد في طوله وأنفه المعقوفة باعتدال... دافئاً حبيباً وصديقاً وسط هذه الوجوه الكريهة الأجنبية حوله، يتلبسهما الدمع تماماً كعيني لتؤكد لي أنه هو. هو وليس أحداً غيره، أبتسم له ألوح إليه بيدي. وجهه لا يبتسم فيما طرف شفتيه يتحرك كأنما يبتسم، يشجعني ذلك فأقف وأتجه نحوه. يعطيني ظهره... نصف الطريق ثم أرتد إلى مقعدي خائباً مدحوراً، أتأمله أمامي على بعد صفين أحمقين، تغير كالدنيا الخؤونة، غدر كالبشر المتقلبون. ها هي القبعة التي لطالما سخر منها تجد مكاناً على رأسه، وكوالده تماماً اتشح بالسواد. الفيلم الذي جئت إليه متلهفاً لأكتب مقالتي المنحوسة يغلق أبوابه السبعة أمامي، غامض كلغز كابوسي لا أستطيع الولوج لتفاصيله فأصبحت شخوصه تتحرك أمامي بلا هدف. بلا غاية.. بغباء شديد، فيما ذاكرتي انفتحت أشرعتها على شاشة ضخمة تسيطر على تفاصيل حياتي ليظهر هذا الأحمق شاؤول وجيرتنا معاً، ومساعدته لي في بسطة يوم الجمعة في رأس العمود، وهوسه بالكنافة التي يصر على أن نمر دائماً على سوق باب خان الزيت لنشتري منها، وقراءتنا لتاريخ القدس الملهمة لنكون أقرب. كنا نتدارس تاريخ البلدة القديمة؛ تاريخ كليومتر واحد مقدس لثلاثة أديان، لقد كنا نعشق شوارعها وأسوارها المعتقة بالتاريخ فكنا نحفظه ونتدارسه من كتب محايدة ونتفقد الأماكن المذكورة في الكتب ونعاينها أعمدة وأبواباً وحوائط وبقايا أبنية مقدسة. كنا نستهجن ونتساءل كل يوم لماذا تكون سبب حرب بيننا فيما لديها كل مقومات ان تجمعنا أن تلهمنا أن تبقينا معا، كنا نتبادل أسماء زواياها وحاراتها ونختلف ونتعارك كثيرا ثم نرجع في اليوم التالي وكأن شيئاً لم يحدث. صداقتنا التي ابتدأنها منذ أواخر طفولتنا والتي أمضيناها معاً ملعونين من عائلتينا أنا كنذل عريق في نذالته صديقاً ليهودي اغتصبت عائلته بيتاً لجارنا في ليلة يلعنها أبي ويذكرها وعينيه تكتسي بلون الدم غاضبا مقهورا، ولكني لا أذكرها أنا! فيما شاؤول ابن لوالدين متطرفين عاقبا إبنهما بشتى وسائل الحرمان..وكرهاه حتى الموت. شخوص الفيلم تغادرني إلى الأبد. فيما تفاصيله تنساب أمامي بلا معنى. تسيل صراخات شخوصه بلا صدى في أذني، يبدو جاداً ومؤثراً، ولكن تتجه عيني نحو من كان أحد أهم الشخوص التي عركتها في حياتي وهو يصر على تجاهلي على أن لا يلتفت.!! ها هو بقامته النحيلة التي اكتنزت أخيراً بقليل من الوزن حتى ابتعد وجهه قليلاً عن حدة الطول الذي كان مميزاً به. سبعة أعوام لا أراه لا أسمع صوته متنصلاً من صداقة تحدينا فيها الجميع كما حاربنا فيها الجميع. صدري تخنقه الذكريات أكثر مما تخنقه هذه القاعة السيئة التهوية. أتذكر ليلة وداع والدي وهو يوصيني بهجره بنفيه باعتزاله، وأنه لن يكون راضياً عني أبداً في أن أهادن من سلبونا الوطن والأمن والكرامة، وأن الجريمة التي لا يُأخذ القصاص من فاعلها لا تموت وأن الدم الذي يُهدر ظلماً لا تجف عروقه وأن الشبر من أرض تنهب لا تتوقف عن اللعنات إلى يوم القيامة، لكنني لم أستطع أن أخذل صديقاً وأتركه وهو الذي قاطع عائلته ومجتمعه لكونه صديقي، ما هو الواجب علينا أنا وهو؟ أن نتلبس الأدوار التي ولدنا لنؤديها أم نتمرد لنعيش كما نريد أن نكون؟؟. شاؤول أزفر الآهات. ما لذي غيره؟ ها هي هيئته الجديدة التي تشبه هيئة والده الذي كان بغيضاً إليه يتبناها. ما الذي بدله؟ ما الذي انتهك انسانيته؟ أفهم أن يتبدل الإنسان إلى الأقدس الأرقى ولكن أبغض أن أفهم لماذا يتبدل الإنسان إلى الأسوأ. ما الذي غيره حتى اتشح بالسواد؟ هل هي الجينات التي تملي علينا أفعالنا؟، أم هو التاريخ الذي يسيطر بخيوطه الحريرية الغامضة ليعيد ما مضى من تاريخ فينا؟، أم هو من حولنا وخيوطهم العنكبوتية التي لا تغادرنا ولا تتركنا لنكون حقيقتنا بل لنكون واقعهم؟، أم كانت مجرد مرحلة من حياتنا وصفاء المراهقة وعذوبتها الأولى والتي تصر علينا لنكون ما لم يستطعه آباؤنا؟ يا لطفولتنا المرجومة بالغضب حولنا، المحكومة باللعنات من أجدادنا!! عشرة أعوام هي عُمر صداقتنا الممتدة ما بين أواخر طفولتنا وأوائل شبابنا كانت تشي بأن القادم كان سيكون أعند، أقوى، وأهم.. ولكنه هو الذي تراجع هكذا وبكل بساطة دون مراجعة أو محاسبة أو وداع.. آه لو كنت أعرف!!!. الدموع تعتقل عيني كرهينة مستباحة ليس من أجله بل من أجل كل شيء خسرته، ولقد خسرت الكثير. آه من أجل هذه القبعة الحمقاء التي لم أظن أنه سيلبسها. آه لو كنت أذكى أحذق وعرفت!!!. خرجت من السينما كوليد جديد. تحررت من البحث والسؤال عنه، من ذكرياتي الحمقاء معه، من السير في العصارى المبكرة بين أسواق باب الخليل مروراً بباب الجديد الذي يهدأ كل يوم وتغلق حوانيته ويقل مرتاديه مرة بعد مرة ونصل إلى سوق العطارين وقد بلغ بنا الجوع مبلغه فنلتهم الحلويات المقدسية ونجلس بين الدكك والطرقات الضيقة حتى ننتهي عند باب المغاربة الغاص بالأقدام الهمجية والأيدي السوداء. كان يغضب أكثر مني كلما بيع حانوت أو بيت في الحي الإسلامي كلما تقلص وجودنا الذي كنا نتابعه ونحصيه معا بغضب وثورة طيلة عمر صداقتنا، كنا لا نتعب أو يقهر جسدنا الفيزياء أو نبالي بالبرودة التي تبقينا جائعين مهما أكلنا أو الشمس التي تُلوننا بالسمرة لنُعرف بأنًا مررنا بها، كإنسان بُعث من جديد تنفست هواء المساء القادم ليجدد هواء رئتي المتعبة المنهكة. ظل ثقيل محمل بالذكريات يتتبعني بعد خروجي من السينما، يتتبع أثري من حارة لأخرى أتجاهله... كأنما لا يعنني من هو أو كأني جاهل حتى لا أعرف من هو الذي يسير تلك الخطوات القصيرة السريعة المتتابعة... ما الذي يريده هذا الأحمق ماذا ينوي أن يفعل؟ في أقرب زاوية ضيقة ومعزولة يقترب مني ويحبسني بين الجدار وسلاحه الصغير الذي يضغط بقوة على صدري ليؤكد لي كم هو جاد. أتأمل وجهه عله ليس هو، علني أخطأت فيما يتأمل وجهي عله يجد سيماء خوف، علامة رجاء ليؤكد لنفسه أنه قادر على فعلها؟ لكن أنا لا أعرف هل أنا مرعوب فعلاً أم مندهش مما وجدت نفسي فيه؟ لست أدري ما الواجب علي فعله أو حتى الإحساس به أو ما يجب علي عرضه على شاشة وجهي لأقنعه بعدم فعل ما ينويه؟. قال لاهثاً وفي عينيه كلام معتق وغاضب: ها قد وجدتك...سبعة... سبعة أعوام لطالما أردت أن أتنصل منك ومن بقاياك العفنة فيَ... طيلة هذه السنوات أردت أن ألتزم بكوني يهودي محترف... صوتك يصهل فيَ ... يعتقلني في منطقة أردتها أنت فيما قررت أن أتحرر منها أنا... أكمل وهو يعبث بوجهي: وجهك يحاصرني كجدار أسمنتي يظهر غاضباً وحزينا... مغامراتنا بين أسواق القدس القديمة.. حتى تجاراتنا الفاشلة في الجمع في باب رأس العامود وتقمصي كأخ لك... طفولتي معك لا تغادرني. المفاجأة قتلت صوتي، وتلك الكلمات المخزية وهي تخرج من فرن أعصابه المحترقة، وأخذت أنبس أكثر مما أتحدث. فيما التساؤل يأكل عقلي أكثر من الخوف على حياتي: ما الذي بدَّلك؟ ما الذي جعلك الشخص الذي كنت تتجنبه، تمقته، تكره وجوده؟ ما الذي غيرك؟؟؟؟. يضغط على المسدس في صدري كأنما يذكرني به: صه... إسكت لا أريد أن أسمع صوتك ... ستموت لأنه لا يغادرني.. ستفنى لأنه يقاومني.. ستنتهي لأنني أريد أن ألتزم بما اخترته؟. أردت أن أطرح مزيداً من الأسئلة. كثيراً من الدهشة... لكن السلاح يخرسني، لقد كنت غبيا بما يكفي لأصدقه، نذلاً بقدر ما صادقته. لن أموت مستسلماً كما عشت. حاولت مقاومته، أزحت سلاحه وأرحته في صدره، أرجعه في صدري، كنا بين كرّ وفرّ، وفوهة المسدس لم تتوقف أو تسكن تماماً كأسئلتي الغبية الحمقاء.. منتظرين أصابع القدر فيمن تختار... صوت السلاح انطلق... والدماء تبعثرت.. انتهكت فيما الغدر يكمل قصته معهم، من بعيد وبرؤية منهكة... شاهدت صاحب القامة القصيرة وبخطواتها السريعة المعهودة... تقتفي الظلام وتختفي في العتمة. * أبوظبي / الإمارات
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©