وحده الشعر خارج القبول والرغبات والأهمية والاهتمام.. وحدهم الشعراء (يقرضون أظافرهم كالدببة) على حد قول “جوته” حسرة واسى ونفياً من محيط المجتمع والسياسة والاقتصاد والإعلام.. وحدها كتب الشعر تطبع كمكرمة وتفضل ومجاملة. وتوزع كهدايا لا رمز لها ولا مناسبة احتفائية. وحدها تقبع في مخازن الخسارة في دور النشر التي تتكرم بالطباعة مجاملة لصديق، أو تكرما من مؤسسة رسمية. وحدها دواوين الشعر يعلوها غبار النسيان في المكتبات ورماد الإغفال في أجنحة المعارض. وحدها لا تحظى باهتمام التوزيع والانتشار في دور التوزيع ووكالاته. وحدها لا زاوية صغيرة لها في وسائط الإعلام مقروءة أو مسموعة أو مرئية. وحدها ليست جديرة بفنون الإعلان الهائلة الحيل والمكر والاتساع. وحدهم الشعراء مساكين الأرض ودخلاء الثقافات. كأنما وحدهم الذين (يقولون ما لا يفعلون)!!. كأنما الساردون يفعلون ما يسردون! أو أن السرد فعلٌُ وتفعيل في الذاكرة والواقع والوقائع!، لذا فإن الساردين موظفون في وسائط الإعلام كلها، ولا قياس قيمة للسرد الذي يسترسلون فيه ويستطردون ويسهبون. فالسرد يسوّد الصحائف، ولا يترك لحرية الخيال مساحة من بياض يحلق في فضائها ليستكشف ويستدل، ليكشف ويدل. والشعر قول مجرد من قوة الفعل، لا ترسانة له، ولا دكاكين في أخطبوط السوق. لأن الشعر يشترط كي يكون شعرا، إيغال في عمق الثقافة بمسردها التاريخي، وقوة الانتباه للعابر والمنسي في مسيرة الحياة، وللخيال مبدعا لما لم يؤتلف بعد، وللحرية خارج سياج المتداول والمقيد، وللغة أبعد من بلاغتها المستتبة وسكونها المألوف، ودلالاتها المحدودة الأبعاد في انسيابها اليومي في وسائط الإعلام التي تماهت بالتداول الشفهي وكرسته. وحده الشعر هامش على هامش اللغة للذين ينطقون بلغة الضاد دون ان ينتبهوا إلى أن الضاد تحيل في لغة الشعر الى الضد، وربما لأنهم انتبهوا فبنوا ترسانة ضدية تهمش الشعر والشعراء. ولأن الشعر يرقى على فنون السرد الذي يحيط بنا كالغبار ويحيق بنا كالضلالة.. ولأن الشعر تطوير للغة وتكثيف لدلالتها، ولأنه يشي ولا يفصح.. ولأنه يضمر ولا يوضح.. يضع وسائط الإعلام والقارئ أمام معضلة اللغز وعجز التفسير، بسبب من ضحالة المعرفة ومحدودية الخيال.. لذا يقيّم الشعر لدى كل هؤلاء بأنه قول المتبطلين، والشعراء خوارج على القيد، وعصيان على التقييد. وإذا كان الشعر خارج مفهوم السوق ووسائل التسويق - تكريما أو تهميشا- فإن الشعراء بشر تخضع حياتهم اليومية لشروط السوق، وضرورتها لتلبية شروط العيش - إذ لم نقل الحياة- لكنهم بإبداع الشعر وحده لن يستطيعوا تلبية هذا الشرط أبدا وعليهم أن يتوظفوا، وان يوظفوا سبلا اخرى يلجأون اليها تعلما واكتسابا، وخبرات لا علاقة لها بالشعر على الاطلاق، كي يؤسسوا بيتا وعائلة ويوفروا خبزا واحتياجا يتزايد كما وتنوعا وفق جبروت السوق وطغيان الدعاية. أن تكون شاعرا لابد ان تكون فقيرا معدما -ولن تنهض بسبب شاعريتك من هذا العدم- أو أن تكون من ذوي الدخل المتوسط -وفق مصطلح السوق- أي أن تكون موظفا في مؤسسة ما. يستهلك الدوام الرسمي طاقة روحك وإبداع خيالك ليؤهلك للاصطفاف في طابور المستهلكين لعبقرية السوق، أو لجبروته!! حمدة خميس | hamdahkhamis@yahoo.com