كم يبدو قاسياً ومراً طعم الأشياء حينما تسحب الحياة عصبها، وتتركك كجثة من خشب! تناظر القلم المذهب الذي كان يحمل توقعيك، فلا تميزه من موسى الحلاقة، تجول حول مكتبتك التي كنت تحفظ رفوفها كأعمى بصير، فلا يقلقك شيء نحوها، هنا كان يسكن عقلك وذاكرتك الطريّة، هنا.. تواردت عليك الجمل والصور وعميق المعاني، هنا.. طارحت بنات الأفكار، هنا.. تنَزّلت عليك جنيات الأبداع، وهنا.. كانت تلك السعادة التي لا يدركها إلا أمثالك حينما تحتضن كتاباً له رائحة لحاء الشجر والفهم، آه.. لتلك الأوراق الكثيرة والمبعثرة هنا.. وهناك، كنت لا تريد أحداً أن يغير فوضى هندستها، لا الزوجة التي ما عادت تغار منها، ولا يد تلك الخادمة الوفية التي كبرت مع البيت، وآه.. لتلك الحقيبة الجلدية رفيقة اليد والكتف والأسفار الطويلة، وتلك النظارة المستقرة على صفحة جريدة قديمة مقلوبة، كل شيء في مكانه إلا “ماركيز” خانت به الذاكرة، ولم يعد يحيد شيئاً، حتى تلك الصور التي تبيت في براويزها، ويظهر في جلها باسماً ضاحكاً، والشنب المسوّد مال إلى الرماد والشقار من أثر دخان السيجار الكوهيبي التي لازمته طويلاً، ولا يريدها أن تدخل في نصائح أطبائه، كان لا يخفيها، ولا تخلو من صورة له، إن لم يكن الصلب في فمه، فالعقب في يده، الآن تلك الصور الكثيرة بالأبيض والأسود أو المتلونة بالبني لا يعرفها، ولا يدري عن الساكنين فيها، ولا يتذكر صديقه الكهل “كاسترو”، عجوز كوبا الذي ما زال يقاوم كآخر محاربي الغاب، والذي كان يستقبله، ويناقشه في السياسة والثورة والثقافة والعالم النقي، كان يتسامر معه، ويعطيه من السيجار النقي الذي تجلده العذراء على بطن ساقها ما يكفيه مؤونة عام بأكمله، اللعنة على “البروستات” وذلك العلاج الكيماوي الذي طرد ذلك الكابوس المميت، لكنه أعطب الذاكرة.
“ماركيز” لا تستحق النسيان، ولا يليق بك النسيان، أنت من أيقظت ذاكرة الناس، وجعلتها قابلة للأسئلة، وقابلة للدهشة والمتعة والتذكر بحب، فهل غياب الذاكرة بأيامها المتبقية، هي كـ”مائة عام من العزلة”؟ وهل يجد الجنرال من يراسله أو يتذكره في نهاية خريف وخرف عمره؟ هل الحياة بلا ذاكرة تستند عليها، وتلهمك الأشياء الجميلة والملونة فيها، أشبه بـ”الحب في زمن الكوليرا”؟
تلك أسئلة بعيدة عن ذاكرة “غابرييل غارثيا ماركيز” التي جعلته يجلس بالقرب من كرسيه القديم في الحديقة العامة يرقب الناس بعين زائغة، مثل طفل ملّ من اللعب والمشاغبة، واستراح من لهاثه وتنهداته، ليسبح وحده في سبحانيته، وسمائه الزرقاء البعيدة، يتبع تعلقات الروح وطيرانها البعيد بأجنحة مثقلة بأسئلة كونية كبرى، أقترب منها ماركيز مرة.. ثم فجأة نسى!


amood8@yahoo.com