تلاشت بيروت من دائرة الأخبار مذ أطل الربيع العربي، لم يعد لبنان خبراً رئيساً في نشرات الأخبار، اختفت أخبار اللبنانيين: صراعات زعمائهم، تفجيراتهم ذات الفاعل المجهول دوماً، اغتيالاتهم المسجلة ضد مجهول، وحتى أغانيهم الشجية غابت عن البال، صباح ما عادت تتصل ببيروت لتعاكسها “ألو بيروت”، وفيروز سكتت ما عادت واثقة أن لبنانها لا يزال أخضر لتغنيه “لبنان الأخضر”، وزكي ناصيف لم يعد موجوداً ليذكر اللبنانيين “راجع يتعمر لبنان”، ولا وديع الصافي يرحب بالأحباب الذين طلوا، صيف بيروت ما عاد يسمع عنه شيء، محكمة الحريري الدولية التي أصابتنا بالصداع، وهي تبحث عن الحقيقة، أغلقت أبوابها على كل الأسرار، أما ليالي لبنان وحفلات لبنان ومهرجانات بيت الدين وبعلبك، فقد بدا وكأنها أصبحت شيئاً من الماضي، ثم فجأة عادت بيروت للواجهة!
فما أن وطأت قدما الأخضر الإبراهيمي أرض لبنان الأسبوع الماضي، حتى “بشر” بنار ستحرق الأخضر واليابس قريباً إذا لم يتوقف القتل في سوريا، ولم تمضِ على حديثه أيام، حتى انفجرت بيروت، وكان الضحية لبنان قبل رجل الاستخبارات القوي وسام الحسن، ولتصدق نبوءة الإبراهيمي ويشتعل لبنان كله قبل أن يتم التحقق من أي شيء، فلبنان قنبلة موقوتة ومضبوطة على احتمالات العنف بمؤشر لا يخطئ!
في بضع ساعات، تجمعت المعارضة لتنادي بإسقاط الحكومة، بينما طرابلس الشمال تشتعل، والفتنة السنية الشيعية تطل مجدداً لتلتهم ما تبقى، فإلى أين يسير هذا البلد الصغير الذي كان في بال أجيال عربية عديدة، أغنية وكتاباً وجمالاً ورقياً وحرية، قبل أن ينقلب به وعليه الزمان، فيحوله إلى لبنان آخر لا يشبه لبنان الحلم والمحبة والسلام، لبنان مختنق اقتصادياً، متقاتل طائفياً سراً وعلانية، موزع على محاور واستقطابات دولية وإقليمية، يفوح بالصراعات والمساومات، وبدل أن يكون قبلة العرب للاصطياف والسهر والمهرجانات والنزهات و”شم الهوا”، وضع على قائمة الدول المحظور السفر إليها بعد أن صار معقلاً للعنف وجماعات السلاح والتطرف، فماذا يفعل هؤلاء الذين يصر اللبنانيون على وصفهم بالزعماء!!
ها هو لبنان يعود ثانية إلى مربع الصفر الأمني، وها هو رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بين فكي كماشة: ضغط المعارضة وضغط الفشل السياسي عن تحقيق شيء يذكر على الجبهة الداخلية، لكن يبقى الفشل في ظل حكومة أفضل كثيراً من الاستجابة إلى ضغوط الاستقالة، لأن ميقاتي باستقالته سيضع لبنان في مواجهة الفوضى الأمنية المدمرة والفراغ السياسي الكارثي، وفي ظرف عربي إقليمي لا يمكن وصفه إلا بالمأساوي!
رئيس الجمهورية اللبنانية قال إن على ميقاتي ألا يستقيل وألا يشكل غطاء وحصانة لأحد، وعلى اللبنانيين أن يعلموا أن في ظروف كالتي يعبرها الوطن العربي اليوم، يرتكبون خطيئة سياسية فادحة، إذا دفعوا الرجل للاستقالة دون وجود بديل جاهز، لأن لبنان لا يشكل حكوماته إلا بشق النفس وتكسير الرأس، تشكيل حكومة في لبنان معضلة سياسية بامتياز، تحل بالمساومات الوعرة وليس بقواعد الدستور الواضحة، لبنان اليوم بحاجة إلى الكثير من العقلاء وضبط النفس ووضع لبنان الوطن على رأس الأولويات، بعيداً عن الطائفة والمذهب والجماعة والحليف الاستراتيجي الذي قاد لبنان إلى كل مآسيه الحاضرة!


ayya-222@hotmail.com