في كتابه البديع المعنون بـ “تاريخ حميم للإنسانية”، حسب ترجمتي الشخصية للعنوان الانجليزي An Intimate History of Humanity يستعرض المؤرخ الانجليزي تيودور زيلدن، تاريخ الأفكار والمشاعر الإنسانية، تلك الأفكار والأوهام والمخاوف والآمال التي شكلت روحانية الإنسان وعقلانيته على مدى التاريخ. فعبر سرد قصص حقيقية لناس عاديين في بداية كل فصل، ينطلق من هذه القصة لتطبيقها على أرض التاريخ، لندرك كم هي البشرية متشابهة طوال الأمد فيما يدفعنا للنهوض كل صباح وما يجعلنا نتطلع إلى الأفق بحثاً عن الأمل واستشعارا للطريق ورغبة في فهم الحياة. جوليت في الفصل الأول تقول إن حياتها فاشلة. فهي بالرغم من أنها مدبرة منزل ممتازة تتنافس ربات البيوت على الفوز بها للعمل لديهن، إلا أنها تؤمن أنها تمتلك مهارات شخصية تؤهلها للقيام بأعمال أهم من الخدمة في المنازل. وبالرغم من أنها عملت في بيوت شخصيات مهمة في المجتمع، إلا أنها تعبر بمرارة عن خيبتها في الحياة إذ لم يشعر أي من مخدوميها بالرغبة في مساعدتها لتجد عملاً آخر يخرجها من دائرة الخدم. يقول زيلدن ربما اختلفت حياة جوليت لو أن الأشخاص الذين التقتهم في حياتها كانوا أقل صمتاً، لو أن أفكاراً أكثر قد تم تبادلها بين الطرفين، لو أن الإنسانية تجلّت أكثر في هذه اللقاءات. ولكنها كانت لقاءات محكومة بالمتعارف عليه بين ما يمكن وما لا يمكن أن يقال بين الغرباء. استوقفتني هذه الفكرة لأنها تصب في صميم معنى الوجود الإنساني، إذ لطالما شعرت شخصياً أن وجود الإنسان لا يتحقق فعلياً إلا حين يُحدث فرقاً في وجود إنسان آخر. كم من الأشخاص يعيشون حياتهم بمرارة لأنهم يشعرون بأنهم يحيون في صندوق ضيق لا يسعهم، صندوق أصغر من إمكانياتهم، وأنهم لو خرجوا منه لكانوا أكثر نفعاً وسعادة. فهناك من يحب أن يكمل دراسته لكنه يضطر للعمل، ومن يحب أن يتزوج لكنه لا يمتلك بيتاً، ومن يعمل نادلاً رغم امتلاكه لمهارات مساعد إداري مثلاً، والبعض يمكن أن يكون مراسلاً صحفياً نشطاً بدل أن يعمل موصلاً لطلبيات البيتزا، وآخر ممكن أن يكون كاتباً عظيماً لو لم يعمل في مهنة تنتهك روحه التواقة للإبداع، والبعض يمكن أن يكون أستاذاً جامعياً مؤثراً بدل أن يظل كاتباً في الأرشيف، لو حاول كل إنسان مساعدة الآخرين حوله على تحسين نوعية حياتهم، بأن يفتح أمامهم إمكانيات الفرص، فيمد كل إنسان يداً لغيره، كل حسب استطاعته وكل من موقعه لاختلفت الحياة بالنسبة للكثيرين. يقال في اللغة فلان أخذ بيد فلان، أي ساعده، أنقذه، كالغريق يمد إليك يده لتسحبه إلى أرض يابسة صلبة يستطيع عليها أن يقف. نبحر في نفس القارب الذي يأخذنا في رحلة الحياة القصيرة، رغم ذلك يصرّ البعض أن يحيا وكأنه يمتلك القارب وحده في نزهة لن تنتهي. التفاتة الإنسان للإنسان الجالس قربه تجعل الرحلة أكثر ألفة وطريق النهاية المحتوم أقل وحشة. لكل إنسان حلم. ليس بالضرورة حلم عظيم لكنه حلمه، لو مد كل إنسان يده لإنسان آخر، لتحسنت ظروف حياة الكثير من الناس ولأصبحت القلوب أكثر خفة، والحياة أكثر احتمالا، ولارتفع منسوب البهجة على كوكب الأرض. Mariam_alsaedi@hotmail.com