جاء سبعينيو الشعر بعد إنجاز جيل الستينيات المشاكس للثوابت والموغل بعيدا عن مشروع الرواد التجديدي، وبمسافة شعرية أبعد عن إضافات الخمسينيين عليه والتي تميزت بالانغماس في الموضوع السياسي (بالمفهوم الحزبي للسياسة) وتخفيف إيقاع القصيدة ولغتها من انضباط الرواد، ولكنْ بالمحافظة على الضوابط الإيقاعية لاسيما الوزنية التي لم ينلها ما نالَ القافية كلازمة موسيقية خفَّ وقعُها نسبيا في القصيدة الخمسينية. لكنّ ما أضافه السبعينيون هو في واقع الشعر محصّلة الكدّ الدؤوب لشعراء العقد الستيني بالغ الأهمية، في الاتجاهات والأساليب والتحديث الفني والتغيرات الجمالية في القصيدة العربية، وفي تبدل المرجعيات الفاعلة في التجربة الشعرية والمؤثرات. كانت حدَّة الأسئلة قد خفّت عما كانت عليه في العقد السابق. تمهدت الطرق وانتبه القراء والنقاد والشعراء أيضاً إلى ضرورة التغيير في الكتابة الشعرية. لم تكن الظروف مواتية تماما كمحيط ضاغط على الشعور والإدراك: هناك حصاد هزائم وتداعيات نهاية الستينيات، وسقوط الشعارات سياسيا، وازدياد الضغوط داخليا على الشعراء بجانب الوعي بالانتكاسة السياسية. كثير من النقاد والقراء والشعراء أنفسهم سيرفضون فكرة التجييل التي اتخذها النقد وسيلة لمعاينة التجارب الشعرية، وما يطرأ من تبدلات فنية في الحساسية الشعرية، وما يستجد من تغيرات جمالية على مستوى التلقي. وهي فرصة للدراسات المقارِنة لرصد تاريخية القصيدة وصِلتها بالمنجز السائد. وأذكر أنني حين أصدرت في النصف الأول من الثمانينيات كتابي "مواجهات الصوت القادم/ دراسة في شعر السبعينيات في العراق"، كان بعض من تعرضت لهم تطبيقياً من الشعراء كعلي الطائي قد جاوزوا المرحلة السبعينية زمنياً، لكنني وجدت مناخ السبعينيات وأسلوبياتها بارزة في قصائدهم؛ فأدرجتهم في الدراسة والمختارات. بينما اعترض آخرون كالشاعر عدنان الصائغ لسبب معاكس تماما، وهو كونهم ينتمون لجيل أقرب زمنيا هو الثمانينيات. ولم تكن المسألة كما بدت لي تتعلق بالأعمار أوبدء النشر مثلا، ولكن بالأسلوب والمنهج الشعري والاهتمامات الموضوعية، وسواها مما يدخل في الشعرية ذاتها، ذلك الاعتراض والردود على تشخيصنا لمزايا أسلوبية وموضوعية في السبعينيات أكد القناعة النقدية بأن قراءة تلك النصوص وتحليلها تفرز سمات خاصة لم تلق كلها قبولنا في حينها، لكنها بعد كل اختلاف ميزة فارقة. وإذا كانت حدة الاختلاف والخلاف بينهم ومَن سبقهم تؤشر للرغبة في تحقيق الذات؛ فإن الالتفات إلى تجاربهم مبكرا وبعد سنوات قليلة من العقد نفسه إشارة صريحة إلى ما يعوّل عليهم في الكتابة الشعرية، وهو مايضمره وصفي لهم في كتابي بالصوت القادم، وقد غاب ذلك عن مناقشات أبرز شعراء السبعينيات للكتاب سواء بدوافع سياقية محيطة بهم كالحروب التي تهيأ لهم الشهادة الواقعية عليها، أو بعوامل داخلية تخص تبدل المرجعيات المؤثرة في تجاربهم وطبيعة موضوعات قصائدهم التي بحثوا لها عن دعامات فكرية في التراث غالبا والمأثورات واللغة الشعرية الموازية لذلك. وهذا قريب مما تهيأ لي الاطلاع عليه من تقييم لتجارب السبعينيين في مصر ولبنان والمغرب مثلا، وهي حدوس لما استقروا عليه في كتابة قصيدة النثر لاحقاً.