أن يثابر إنسان ويغامر، ويغادر أرضه باتجاه 39 ألف متر عند حدود الغلاف الجوي للأرض تلك مسألة تحتاج إلى تبصر، وتفكر، وتدبر، لأن الرحلة لم تكن لمجرد التعبير عن مزاج شخص أو التنفيس عن هواية، إنما المغامرة جاءت لمحاورة علمية، ومناقشة نظرية الجاذبية للفيزيائي اسحق نيوتن .. وبالفعل فعلها فيليكس بومغارتنر النمساوي، ووضع روحه فداء لأجل العلم، لأجل الإنسانية، ولأجل إضاءة جديدة في دروب البشرية، وتحقيق أحلام البشر، في معرفة أسرار وأخبار كونية لم تزل محل جدل، وحوار عقل بين الفلاسفة والعلماء. عندما ننظر إلى المشهد الإنساني، ونتأمل اللوحة، بعيون مبصرة وقلوب بصيرة نشعر بالأذى لما يشهده العالم في الطرف الآخر من عقله، ونتألم إذ كيف يمكن للحب أن يبني ويعمر، ويزهر ويزدهر، وينشئ سوراً عظيماً وسياجاً أعظم ويفتح آفاقاً وأحداقاً وأشواقاً باتجاه النهضة البشرية، وتمدد الحضارة الإنسانية وامتداد عطائها، على النقيض تماماً، تقف الكراهية حداً فاصلاً، وفصلاً قاتلاً، يفتك ويهتك، ويسلك سلوك الشيطان، ويذهب بالإنسان نحو مهالك ومهاو تأخذه إلى جحيم التدمير، وتهشيم عظام الحضارات، وتحطيم زجاج المشاعر الإنسانية، وتحويل الإنسان إلى كائن كاسر، ومخرب تحويله إلى كتلة من الجحيم تحرق، وتمزق، وتفرق، وتغرق، وتسرق، وتهرق، وترهق. إذاً فنحن حتى نتخلص من عناصر التدمير البشرية، إلى كم فيليكس نحتاج إلى أن نضيء طريق الأجيال بمشاعل الحب ونفرش دروبهم بسجادات الأمل، ونعمر قلوبهم بالأخضر اليافع اليانع، ونحيي أرواحهم، على وَقْع أنغام الحياة، ونزخرف عقولهم بأفكار تسفر، ولا تكدر تعمر، ولا تدمر، تبني ولا تهدر، تحفظ ولا تبذر، تيسر ولا تعسر؟ العالم، اليوم بحاجة إلى نظرية إنسانية مدهشة مثل ما هي نظرية الجاذبية لدى نيوتن، بحاجة إلى علم جديد، يخترع مادة شديدة المفعول تخلص البشرية، من الحقد والكراهية والضغينة والأنانية تحرر الناس أجمعين من المبادئ الكاذبة، والأفكار الصاخبة والمعتقدات المتحاربة، يحتاج العالم إلى أمثال فيليكس ليغيروا الوجه المتوحش للعالم، ويعيدوا إلى البشرية جبلتها الأولى وسجاياها النقية .. ما يحصل في العالم يتجاوز حدود المنطق ويخرج عن نطاق الحق، ويدخل الإنسان في دوامة البحث عن “الأنا” الغائبة في أتون الكثبان المتحركة، والضغائن المتعاركة، والعقائد المفبركة والقضايا المستهلكة، والأحداث الشائكة. ما يحصل في العالم اليوم يضع الإنسانية في الحاجة الملحة للدين الحقيقي والاعتقاد الحقيقي والهوية الحقيقية بعيداً عن انتماءات تحلق خارج الغلاف الجوي للأوطان، بعيداً عن شيم الإنسان. ما يحصل في العالم يطرح سؤالاً على فيليكس .. هل ستسقط تفاحة الحقد من شجرة الجهل؟ علي أبو الريش | marafea@emi.ae