يبدو أن الكائنات الثقافية هي كائنات منقرضة، تشبه الديناصورات في وجودها. «كانت» ذات حضور مؤكد، عملاق، طاغ، لكنها أصبحت مجرد سيرة أسطورية. نعرف أنها كانت موجودة ونستدل عليها من آثارها. ينطبق حال الديناصورات المنقرضة على حال المجلات الثقافية، التي دخلت في حال الانقراض وأصبحت أثرا بعد عين. هذا الأسبوع انضمت إلى قافلة المنقرضين مجلة «الآداب» اللبنانية العريقة، التي بغيابها تطوي معها مرحلة – بل مراحل – من الحراك الثقافي العربي المتصل بالفكر والسياسة وتحولات المجتمع. أطلق الأديب سهيل إدريس «الآداب» عام 1953، سنة واحدة بعد قيام ثورة الضباط الأحرار في مصر، فارتبطت المجلة بالقيم والأفكار القومية والتحررية التي باتت عنوان تلك الحركة. وعلى هذا الأساس تخطت المجلة الوليدة، ولأول مرة بين شبيهاتها، عتبة الثقافي باتجاه الفكري والسياسي والاجتماعي العام كما الإستراتيجي. بدت في حينه وكأنها لسان الحال الثقافي والفكري لحركة القومية العربية. كرست صفحاتها وأبوابها، ودراساتها ونصوصها، من أجل قضية الوحدة والتقدم والتحرير. وبهذا البعد خاضت «الآداب» معاركها مع كل ما رأت أنه يمثل تهديدا للفكر القومي العربي. وتحت هذا العنوان تندرج معركتيها مع أشهر مجلتين ثقافيتين في زمنها: مجلة «شعر» المنتسبة فكريا إلى تيار الحداثة الأوروبية، ومجلة «حوار» المنسوبة، تمويليا على الأقل، إلى مؤسسة حكومية أميركية. في افتتاحيته الأخيرة يرش سماح إدريس رئيس تحرير «الآداب» الملح على جراح كثير من المؤسسات والمنابر الثقافية. يلخص الأسباب التي دعته إلى إغلاق المجلة. بينها ما هو تقليدي مثل أزمة النشر الورقي والنشر الإلكتروني، وذيوع زمن «الفايس بوك» وانتشار المواقع الثقافية الشخصية أو العامة. ومن الأسباب ما هو غير تقليدي، على الأقل لناحية الإعلان عنه. فسماح إدريس يعلن إن أزمة «الآداب» لم تكن أزمة تمويلية، فدار النشر الناجحة التي أسستها المجلة بنفس الاسم، لديها القدرة على تمويل «الآداب» لستين سنة أخرى. يعترف إدريس بأن الأزمة في حقيقتها هي ندرة القارئ. افتقدت المجلات الثقافية المتخصصة، الشهرية والفصلية، جمهورها المهتم بين جموع قراء الصحف الدوارة. يشير سماح إدريس إلى سبب آخر بين مجموعة أسبابه، هو حلول الملاحق الثقافية الأسبوعية التي تصدرها الصحف اليومية، محل المجلات في دورها ووظيفتها وتأثيرها، لا يمكن لغيرها أن يقوم به في هذه المرحلة على صعيد الإعلام الثقافي العربي، لا تلك المجلات التي تمولها وتديرها وزارات الثقافة العربية والتي ينطبق عليها ما ينطبق على الإعلام الرسمي من معايير، ولا تلك المجلات التي تهيمن عليها الأحزاب (اليسارية واليمنية) والتي لا تجيد القراءة إلا في بياناتها. ذلك واقع لا يعترف به كثيرون، بل ربما إنهم يدّعون ما يخالفه. يتحدثون عن صحفهم ومجلاتهم الورقية وكأنها تحدث انقلابات ثقافية في واقع راكد وآسن. لقد حدث الانقلاب فعلا. وهو بكل المقاييس والتوصيفات انقلاب ثقافي، ناتج عن معطيات سياسية وفكرية واستراتيجية حتى لا نقول عسكرية. وبالتالي أصبح من المعقول أن ينقرض زمن ومعه مفرداته ومؤسساته ومنابره، لكي يسود زمن آخر بما يحوزه من عدة للعمل. تغيب «الآداب» وهي تؤشر بغيابها إلى غياب زمنها. تضع نقطة ختام لستين سنة من الأحلام والتطلعات. لكن ميزة هذا الغياب أنه يأتي في زمن الارتباك والالتباس، وهو حال كاف لكي يترك كل الاحتمالات مفتوحة على الزمن القادم.. وإلى حين حلوله ستحضر سيرة الديناصورات الثقافية متوهجة من بين عوامل الانقراض. adelk58@hotmail.com