الاحتفاء بطه حسين ـ وحتى في مناسبة أربعين عاما على رحيله ـ هي مناسبة استثنائية بروتوكوليا وأدبيا لم نعتدها من قبل، ولكنْ ثمة ما يبرر الاحتفاء والحلقة الدراسية التي أقامتها مؤسسة العويس الثقافية، ونشرت الصحف خلاصات لأوراقها البحثية، وكتابات الزملاء في "الاتحاد الثقافي" (الدكتور صلاح فضل والأستاذ عادل علي في عموديهما والاستاذ محمد وردي في تغطية الجلسات والتعقيب عليها). المبرر هو حضور طه حسين في اللحظة الثقافية المعاصرة، وحاجتنا لما أسماه (الثورة الأدبية) في تمهيده لكتابه "في الشعر الجاهلي" الأكثر دويا ومشاكسة. لقد ذكر التمهيد ما يشي بنيات طه حسين المختلفة عما هو سائد؛ فنوّه بالتنوير والمستنيرين، وقرَن الأدب بالجدّة والنهضة بالحداثة، ووصف مذهب المجددين بأنه (إلى الثورة الأدبية أقرب) وراهن على المستقبل الذي سيكون للعلم فيه شأن يزيل الجمود. ومستندات طه حسين تنتمي مرجعيا لآليات الشك الذي اتخذه منهجا في دراسة حقيقة الشعر الجاهلي. ولكن المنهج كان أخطر من الشك بقيمة الشعر الجاهلي أو المقايسة بين حقائق العلم وفرضيات الدين. ذلك المنهج فجّر الثورة الأدبية عبر كتابه هذا وسواه. ولعل محاكمة طه حسين ونقاط الأزهر الأربع ضده تشير إلى الهلع الذي أصاب الدوائر التقليدية والمحافظة. يعترف طه حسين بأنه (ألح في الشك) لكنه يصف شكه بأنه (شك أدبي) اقترن بالثورة الأدبية التي لم تأخذ مداها لما أثار خصومه من زوابع لم توفر نعتا خطيرا إلا وألصقته بالمؤلف وكتابه، ما دعاه لإصداره بعنوان جديد وبحذف الفصول المثيرة للجدل. لكنه تمسك بدوافع زعمه أو افتراضه حول جاهلية الشعر الجاهلي، ومطالبته بأن يُستشهد بالقرآن والحديث على تفسير هذا الشعر وتأويله، لا العكس. لشكّه في تاريخية نصوصه ووجود شعرائه.. ولقد كان الشك مسألة معرفية مقلقة، فالمصطلح والمفهموم مقترضان من حاضنة فلسفية ديكارتية تحديدا، أسقطهما على حقل دراسة النصوص الشعرية، وتحقيق نسبتها إلى العصر الجاهلي، ووسّع إجراءات الشك الذي يوصل بحسب المرجع الفلسفي له إلى اليقين لأنه لحظة تكتيكية للتحقق من صواب الإجابات السابقة أو المستقرة في الوعي والمتداولة بلا تمحيص. فكأنه بهذا الإسقاط والتوسيع قد استفز العقليات التقليدية من جهتي القديم والثابت وما لهما من قداسة في خطاب التقليد والنقل الذي نشط في الربع الأول من القرن العشرين، بمواجهة كتابات التنوير ودعوات التجديد في الحياة الفكرية عامة. لقد نوّع طه حسين في جوانب خطابه الأدبي، ولم يكتف بالبحوث المعمقة فتعداها لترجمة قناعاته سرديا، في سيرته كما صور جزءا منها في "الأيام" أو البحث عن العدل المفقود كما في أقاصيص "المعذبون في الأرض" وعبر تمجيد المعري شاعرا مفكرا وسواها من كتاباته. هذا الدرس المستعاد في ذكراه يتمحور في ثورته الأدبية ولافتات التجديد والنهضة والاستنارة والتحديث التي دعا لها ما وسعته المواقف والظروف. وهي بالضبط حاجة أدبنا المعاصر وثقافتنا المتراجعة في راهن أيامها.